ذات يوم خُيّل لي أن الفقر ابتلاء، وما أن يأتي شهر رمضان الكريم حتى يتهافت الأغنياء على بيوت الفقراء فلا يقوم من بعد هذا التهافت للفقر قائمة. لكن أمرًا لم يتغير، الأغنياء مثلما هم بأعدادهم وأسمائهم، وبالدور الثابت الذي يلعبونه. والفقراء كما هم دائما إلّا إنَّ أعدادهم تزداد، ومن شكل للفقر إلى آخر يدنو الشكل السابق.
عاد هذا الشهر كثيرًا، لكن شيءً لم يُنقص الفقر، بل زاد صوته وحجمه. ما يحدث هو أنني أستمع وأشاهد برامج برعاية ضخمة لشركات خدماتية واستهلاكية، تستضيف هذه البرامج عائلة فلان "المستورة" وتخوض في حجم عوزها حتى لا يبقى لهذه العائلة شيء مستور. هؤلاء كاللصوص يتسللون إلى بيوت الناس كي يسرقوا ما عجز الفقر أنَّ يسلبهم إياه، كرامتهم التي دفنوها بالسر، حتى تأتي هذه البرامج لتبعثرها في العلن. هذه البرامج، تمحو التقاليد القديمة "كالعونة"، والتضامن الاجتماعي بين من يملك ومن لا يملك، إنَّها تحطم مشاعر الإنسان بدل من الشعور به، إنَّها تستغل حاجة الناس وهموهم بطريقة بشعة ووحشية لتقدمهم لنا بصريا كحالات تُذرف عليها الدموع.
لماذا أصبحت مثل هذه البرامج عادية؟ ما يربطها في شهر رمضان هو ما يربط الرأسمالي في رعاية هكذا برامج، "المصلحة"، العائد المادي، والترويج للسمعة والصيت الحسن. وما يربطها في شهر رمضان أيضا، هو حاجة "المؤمن" لعائد معنوي، مصلحة مرتبطة بالثواب والحسنات.
هذه البرامج صارت عادية؛ لأن مسألة مكافحة الفقر أوكلت للمؤسسات الأجنبية، والتي لا تعمل في هذه البلد لأجل عيون أصحابها. يقول أحدهم: "لا أحد يعطيك الدقيق ليشتم رائحة خبزك بل ليشاركك فيه"، إنهم يأخذون منا قبل أن يعطونا، أليس هذا خبثا؟
إنني أرفض أن يكون رمضان مناسبة دينية أو موسم للتكافل الاجتماعي من منطلق ديني، إنَّه ليس كذلك؛ لأنه غير مرتبط بأسباب الفقر وحاجة المجتمع للقضاء عليها، وإنما هو مرتبط بحاجة المؤمن لهذا الشهر كي يتصدق أو يزكي الخ. فما أسوء من الفقر إلّا إنَّ يكون له مناسبة كي يتباها من يمتلكون على من لا يمتلكون، ثم ينقضي الشهر وكأن شيئا لم يتغير.
الأسوأ من ذلك كله، أن تخرج علينا بعض الشركات الاستهلاكية، فتقدم حملة "..الخير، في شهر الخير"، اشتري كمية معينة من المحل الفلاني لتحصل على كوبون شرائي إضافي. أو اشترك في حملة "..الخير" لتدخل السحب على الجائزة الفلانية. ليست هذه ملاحظة عابرة، إنها مرتبطة في سياسة السوق، إنها مرتبطة بلعبة الشركات الرأسمالية المستغلة، والتي تسعى لإفراغ الجيوب من محتواها بأي وسيلة كانت، حتى لو كانت متعلقة بربط الدين "المعنوي"، بالاستهلاك "المادي".
إن حاجة الناس للربح أو الكسب الإضافي في مثل هذه الحملات، "على اعتبار أنهم يربحون"، غير مرتبط نهائيا بحاجاتهم. إنها خلطة معقدة، أقل ما يقال عنها لعبة "مال" غير منصفة، وأقطابها غير متكافئون، وخليطها متداخل بين الديني والاجتماعي من جهة، وخلق حاجات الناس من جهة أخرى.
يظن أحدهم أن الأشياء ليست كما تبدو، ويظن أيضا أننا مخدوعون باستمرار لذلك على الأقل يجب أن نعرف كيف نُخدع. الإذاعات وأجهزة التلفاز، مقدمو البرامج ورعاتهم، كلهم لن يستطيعوا أن يفعلوا شيئا مهما حشدوا من عبارات التفاؤل والتأمل كل صباح ومساء. فالسراب لن يسقي الظمآن، إنهم لن يغلقوا أنفك حينما تمر بالقرب من حاوية قمامة بجانب إحدى المطاعم الفارهة، ولن يغلقوا أُذنيك حينما يقول لك أحدهم أن ملامحك تبدو متعبة، متعبة لدرجة أنك تبدو لهُ كجثة تسير على قدمين. لن يطعمونك الأكلات التي تَسمَعُها في إذاعاتهم وتراها في شاشاتهم. لا تصدقهم، إنهم يخدعونا باستمرار، يصنعوا لنا من الوهم حقيقة، كاذبون، كاذبون باستمرار.