انتهت الانتخابات التركيَّة منذ يومين، لتُظهِر حقائق كانت آخذه بالتبلور والتمظهر على مدار العامين الأخيرين، لكنَّها لم تكن جليّة كما هي عليه اليوم. انتصار بطعم الهزيمة مُنِي به الحزب الحاكم في تركيا (حزب العدالة والتنمية)، وحليفه الحركة القوميّة، أمام تحالف الأمة المعارِض (الشعب الجمهوري والحزب الجيد) في انتخابات البلديات التركية الكبرى مثل اسطنبول وأنقرة وأزمير.
حصل تحالف الجمهور (العدالة والتنمية والحركة القومية) على 51% من الأصوات، وهو ما يُعادِل 50 بلدية، فيما حصل تحالف الأمة المعارِض على 32% من الأصوات، علاوة على حصول حزب الشعوب الديمقراطي المقرَّب من حزب العمّال الكردستاني على 8 بلديات، والمفاجأة الأكبر كانت بفوز الحزب الشيوعي التركي في بلدية تونجلي وهو حزب كان ممنوع منذ العام 1923.
كانت المفاجأة الحقيقيَّة فوز المعارضة في ثلاث مدن رئيسيَّة كبرى: اسطنبول وأنقرة وأزمير، فاسطنبول عاصمة تركيا الاقتصاديّة شهدت فعلياً صعود رجب طيب أردوغان الذي توّلى رئاسة بلديتها قبل أن ينتقل مباشرة إلى رئاسة البلاد، أما أنقرة فهي العاصمة السياسيَّة، بينما تُشكِّل أزمير أحد أهم المدن السياحيَّة في البلاد، وخسارة هذه البلديات مؤشِّرات مهمة للانتخابات الرئاسيَّة القادمة عام 2023.
كيف نفهم هذا التراجع داخلياً؟
شكَّل التضحم والانكماش الاقتصاديّ من جهة، وانخفاض سعر الليرة التركيَّة من جهة أخرى، بالإضافة إلى تركيز الحزب الحاكم على المشاريع الاقتصاديّة الكبيرة، التي تضمن مصادر دخل لا تستفيد منها الطبقات والفئات الشعبيَّة، أحد أهم العوامل التي ساعدت بهزيمة الحزب الحاكم في الانتخابات البلديَّة الأخيرة، فالمعطيات تتحدث عن نسبة بطالة تصل إلى 15%، وانخفاض في الدخل وتفاوت في توزيع الثروات يتنامى دون حلول حقيقيَّة، مما يدفع الفقراء والطبقات الشعبيَّة ممن كانوا يمنحون أصواتهم للعدالة والتنمية، أن يعيدوا النظر في توجهاتهم، على الرغم من فوز أردوغان في الانتخابات الرئاسيَّة في منتصف العام الماضي.
من جهة أخرى أشار أردوغان لسبب آخر للهزيمة الأخيرة في آخر انتخابات رئاسيَّة، إذ أشار لحجم الفساد والبيروقراطيَّة الكبير التي يراها المجتمع التركيّ جزء من حزب العدالة والتنمية، وإلى الأعداد المتزايدة من المتسلقين المنتمين إلى حزب العدالة والتنمية. في المقابل نجد أن أحزاب المعارضة استطاعت لملمة صفوفها، نوعاً ما، وتوحيد قواها خاصة في المدن الرئيسيَّة، مما ساهم بشكل رئيسي في حسم البلديات الثلاث الرئيسيَّة، بالإضافة إلى دعم مناصري حزب الشعوب الديمقراطي خاصة في اسطنبول وأنطاليا وأضنة ومرسين وهاتاي واسكي شهير وجاناقلعة. يُذكر أنَّ حزب الشعوب الديمقراطي قد حصل في الانتخابات السابقة على نتيحة 12% بينما حاز الشعب الجمهوري على 24% فيما حصل الحزب الجيد على 8% من أصوات الناخبين.
هذه الخسارة في المدن الكبرى لا نستطيع فصلها عن سلوك حزب العدالة والتنمية في السلطة بالسنوات الأخيرة عقب الانقلاب الفاشل عام 2016، حيث قامت السلطة بقمع المعارضة والتخلص من المنافسين، وإقالة أعضاء برلمان ورؤساء بلديات بحجج قربهم لحزب الشعوب الديمقراطي الذي يمتلك علاقة جيدة مع حزب العمال الكردستاني، هذا وشدد أردوغان قبضته على مفاصل الجيش والاستخبارات والإعلام، وشن حملة اعتقالات واسعة طالت مئات الألوف، ومداهمات ليلية، وافتتح 17 سجناً جديداً خلال 3 سنوات، بالإضافة للتخطيط لبناء 105 سجن جديد في توجه واضح نحو السيطرة أكثر على المعارضة وإخضاعها بالوسائل الأمنيَّة.
أما خارجياً، فتركيا التي تحولت من سياسة "صفر مشاكل" إلى سياسة "كل مشاكل"، فمن الواضح أنَّ التغيرات الجديدة داخل المنطقة في الملف السوري تعكس نفسها، فالمسألة السوريَّة هي بيت القصيد ومتن التحليل وحلقته الأساس، فقد اختلَّت موازين القوى لصالح محور المقاومة، وارتد المشروع الأمريكي –الصهيوني- الخليجي- التركي ضد سوريا، وخسرت الجماعات الإسلاميَّة المعركة هناك، ولم يتبقى لها سوى إدلب آخر المعاقل، هذه الخسارة بالضرورة تعكس نفسها على الانتخابات التركيَّة، خاصة أن التركي كان دائماً داعماً للحركات الإسلاميَّة هناك، بل وشكَّلت تركيا حاضنة لها، وخسارتها تعني خسارته.
من جهة أخرى تتخبط سياسة أردوغان بين الخصمين، روسيا والولايات المتحدة الأمريكيَّة، في ازدواجيَّة لا تصلح لأن تطول كثيراً في السياسة، بل انعكست سلباً على الصورة العامة لأردوغان، خاصة على المستوى الاقليميّ والدوليّ، وقد تزامن ذلك أيضاً مع مختلف العوامل الداخليَّة التي ذكرناها سابقاً.
في الختام، انتصار محور المقاومة يتطلب من اردوغان فهم هذه التغيرات وضبط شرعيته بما يتلائم وانتصار مشروع المقاومة بالانحياز له وإنجاز مسألة إدلب والشمال السوري وإتفاق أضنة مع النظام السوري، والحسم مع الموقف الأمريكي، وإلا خسر أوراق نفوذه نهائياً في سوريا والمنطقة.
يبدو أننا نمر اليوم بمخاض جديد للمنطقة ينبئنا بأفول المشروع الأمريكي كما وأفول مشاريع الإسلام السياسي التي شكلت تركيا نموذجاً لها. إنَّ رياح التغيير آتية، "والتعاسة بالسياسة هي ألا تستوعب المتغيرات." لينين.