هي الحكاية ذاتها: انتخابات الكنيست وموقف الفلسطينيين منها. وفي الوقت الذي ترتفع فيه الأصوات الداعية للمُقاطَعة، تنهال بعض الردود الرافضة للمُقاطَعة والداعية للمشاركة في الانتخابات بهدف "تمثيل المجتمع العربي". فعلى أيّ ضِفّة ينبغي للمجتمع الفلسطينيّ الوقوف؟
بدايةً، إنَّ اتخاذ موقف من أيّ قضيّة إشكاليّة لا بد وأن يسبقه دراسة علميَّة للظروف التي تتشكّل ضمنها هذه القضيّة، وقضيّة اليوم هي علاقة المجتمع الفلسطينيّ بالمؤسَّسة السياسيَّة الصهيونيَّة، ورمزها الأبرز الكنيست. فلنَعُد قليلاً إلى الجذر؛ إنَّ علاقة الصهيونيَّة بمفهومها الفكريّ والسياسيّ والمؤسساتيّ مع الشعب الفلسطينيّ محكومة بحقيقة غير قابلة للنكران، وهي الاستعمار. ونظرتنا للاستعمار ينبغي ألا تَحيد عن تعريفِه كمشروع عنفيّ إلغائيّ، يمتلك من الإمكانيات ما يجعله قادراً على تهديد وجود شعوب بأسرها على صعيد الهويّة والأرض. والمُستعمِر، بصفته كياناً "فاعلاً" ذا خطة ممنهجة واستراتيجيَّة واضحة تتبدّل تكتيكاتها وفق الظروف الموضوعيَّة، يفرض واقعاً استعماريَّاً يضع من خلاله المُستعمَر في خانة "المفعول به" الذي يتلقّى فعل المُستعمِر ويعمل على إثره، ولعلّ مشاركة ممثلين فلسطينيين في الكنيست هي المثال الأبرز لهذا الواقع. فمن احتلال الأرض إلى الإبادات الجماعيَّة والسيطرة العسكريَّة والاقتصاديَّة وصولاً إلى مخطَّطات التهجير (المباشر وغير المباشر)، يسير المشروع الاستعماريّ الصهيونيّ نحو أهدافه الإلغائيَّة بخطى ثابتة. فيما يبقى المجتمع الفلسطينيّ عالقاً في خانة "المفعول به" الذي يتلقّى الضربات ضمن دائرة اللعبة الاستعماريّة، وأقصى رد يُسمح له به هو الصراخ (أو تمزيق ورقة قانون القومية).
لكن هل المقاطعة حل؟ في الواقع، لا ينبغي للمقاطعة أن تشكِّل حلاً، لأنَّ المشكلة ليست بشكل العلاقة مع المنظومة الصهيونيَّة، بل بجوهر العلاقة نفسه. ومن هنا، تُشكِّل المقاطعة فرصةً للمجتمع الفلسطينيّ للخروج من زاوية "المفعول به" إلى ساحة الفعل التي تكسر قيود الظرف الاستعماري، وتسمح للمستعمَر بتحويل الإرادة إلى فعل على طريق بناء هويّة فلسطينيّة مُناهِضة للاستعمار. لأجل ذلك، لا بدّ من المقاطعة، ليس لأنَّها خيار، بل لأنّها الفعل الفلسطيني الوحيد الممكن في هذا السياق.
وأنت مالَك يا "لاجئ"؟
سؤالٌ يطرحه كثيرون في مثل هكذا مناقشات، سواء جهروا بالطرح أم أبقوه في سرِّهم. ما التأثير الذي ستحمله مقاطعة الكنيست على الشعب الفلسطينيّ خارج نطاق الأراضي المحتلة؟ لأكثر من 70 عام، نجح الاحتلال بتطبيق سياسة "فرِّق تَسُد" ضمن صفوف الشعب الفلسطينيّ، إذ بالإضافة إلى التمزيق الديمغرافيّ المستمر منذ عقود، تفشّت موجات من "التنفير" المُتعمَّد بين فئات المجتمع الفلسطينيّ، والتي ساهمت بها السياسات الساذجة للعديد من القيادات السياسيَّة الفلسطينيَّة. تَجاهُل أكثر من 70 عاماً من التشتيت الديمغرافيّ والاجتماعيّ ليس تقديراً علميَّاً، لكنّ الرّضوخ لهذه التقسيمات يعدّ أشدّ جفاءً للمنطق والتقدير العلمي. إنَّ فهم الفروقات الاجتماعيَّة التي أفرزها الظرف الاستعماريّ لا ينبغي أن تدفع الشعب الفلسطينيّ إلى فخّ "الخصوصيَّة" التي يتغذّى عليها الاستعمار الصهيونيّ لتفتيت القضيّة وتحويلها إلى صراعات مُتفرِّقة سهلة الاحتواء. في الواقع، إنَّ بناء الهويّة الفلسطينيَّة المناهِضة للاستعمار والساعية للتحرّر والتحرير لا بدّ وأن يقوم على ثنائيّة العقل والإرادة: العقل الذي من خلاله ندرس الظروف الموضوعيَّة الموجودة، والإرادة التي تحمل الغاية الواحدة التي يعمل لأجلها عموم الشعب الفلسطينيّ. وتكمن أهميَّة الإرادة في أنَّها الوسيلة التي من خلالها نكسر خطوط "الممكن" و"المستحيل" التي يفرضها المستعمِر على الشعب المضطهَد بهدف إحكام السيطرة النفسيَّة وتكريس الهزيمة في عقول أفراد الشعب*. لهذا، إنَّ مقاطعة الكنيست ليست شأن "فلسطينيي الداخل"، والهبّات الشعبيَّة في القدس والضفّة ليست شأن "فلسطينيي الضفة"، والمقاومة المسلّحة في غزّة ليست شأن "فلسطينيي غزة"، تماماً مثلما كانت الثورة الفلسطينيّة في "الشتات" شأن كلّ الفلسطينيين أينما وُجِدوا.
إنَّ مقاطعة الكنيست فعلٌ فلسطيني يطرق جداراً آخر من جدران المستحيل، وهي حلقة أساسيّة على طريق بناء الوعي الفلسطيني الشامل في سعيه للتحرر والتحرير تحت شعار: "تشاؤم العقل وتفاؤل الإرادة".
قاطعوا، فكلّنا مُقاطعون!
*راجع مقال "الانتفاضة دمّرتنا"، باسل الأعرج.