لا يوجد أدنى شك بمصداقية نوايا حملة المقاطعة، ووطنيّة الشباب والشابّات القائمين عليه، وعملهم/ن النابع من همّهم/ن والتزامهم/ن بقضيّة شعبهم/ن. تُعبِّر هذه الحملة أولاً عن استيائنا من ذُلِّ الارتباط بالإجراءات الـ"نضاليَّة" المحصورة بالمؤسَّسات الصهيونيّة المسؤولة عن مأساة شعبنا، وتستغل وجودنا فيها لتبيّض جرائمها. تعِبنا من عقم هذا النضال، حتى على المستوى الـ"براجماتي" أو الـ"يومي" المزعوم. تتبنى القيادة استراتيجيات لم تعد تعبّر بعد عن طموح شعبنا، قيادات تحمل رؤى مليئة بالغبار لا تتجدد، تعلو لديها التقييمات والمحاسبات الحزبيَّة الضيقة على تقييم مستقبل قضايا شعبها. بالإضافة إلى كل ما يذكره البيان، تعبّر هذه الحملة أيضاً عن استيائنا من معاملة قيادتنا للجيل الشاب باستهتار وإقصاء؛ يقلِّصون قيمتنا في اتخاذ القرارات ويلغون أراءنا بخطابٍ تهرُّبيّ يُعبِّر عن عدم تماسك خطابهم ذاته. ثقافة سياسيّة تُهمِل الشباب على كل المستويات، في داخل كوادر الأحزاب أو من خارجها، تهمِّش الأصوات والآراء الجديدة النقديّة والثوريّة. هذه حملة جديّة وقد حضرت في فترة مفصلية مهمة في تاريخنا النضاليّ، وبصفتي أقف وراء نواياها، وأوّد أن أطرح نقداً بنّاءً لها.
الاصطفاف وراء شعار سلبيّ كـ”مقاطعة انتخابات الكنيست” هو مخاطرة. تخيفني الفكرة أنّ طاقاتنا الشابّة، التي نحن الآن بأمسّ الحاجة لها لبناء المشاريع البديلة وسبل النضال الشعبيّة المؤثرة والحقيقيّة، قد تُهدر. وبدل أن تشكِّل هذه الطاقات بديل للـ”نضال البرلمانيّ”، نحصر أنفسنا فيه بالتركيز العمل على نفيه. بالتركيز على المشاركةالمقاطعة، كتصويب رئيسيّ، سنلجأ إلى قياس نجاحنا/فشلنا بحسب نتائج يوم الانتخابات، وعملياً، بدلاً من أنْ نهمِّش هذا اليوم، نعيد إنتاج أهميَّته لكن من الجهة المضادة. كما أنَّ روح النشاط السياسي عامةً، وبالعالم العربي خاصةً، وبالذات ما بعد الـ”ربيع العربي” أثبتت لنا مخاطر الجمود في استراتيجيَّة النفي، فسقطت الأنظمة على أرضٍ سياسيّة غير خصبة للبدائل، فنمت أشواك الدواعش والإمبرياليّة. بالطبع لا مقارنة بين إسقاط أنظمة دولة في البلدان العربيَّة و"إسقاط" المشاركة بالكنيست، فبهذه المقارنة نفترض أنّ العمل بالكنيست له طابع سياديّ او سلطويّ، وهو أقل قوّة من ذلك. ولكن كأبناء وبنات هذه المرحلة، علينا التعلُّم من أخطائنا وأخطاء غيرنا وبناء رؤانا نقدياً، والعمل على تخصيب الساحة السياسيّة بالأفكار الثوريّة والاستراتيجيّات العمليّة. ينوّه داعمين الحملة دائماً إلى أنَّ هذه خطوة أولى، وأنَّه ما بعد الانتخابات، سيستمر العمل على التفكير وإنتاج البديل. ولكن كون عنوان الحملة، وأهدافها المعلنة محصورة في إنجاز النفي، فبالنسبة لجمهور الهدف المصوِّت هذا غير مفهوم ضمناً. كون الوعي العام هو الذي سيبني الهوية السياسيّة للحراك، وما زالت الحملة لا تُعرِّف علناً هدف المقاطعة كخطوة أولى من استراتيجيّة تحرريّة أوسع، ستثبت صورة الشعار السلبيّ للحراك وتغلب على الرؤية الأبعد.
إنَّ العمل الذي يقوم به الشباب والشابات غير مسبوق، ويمكن الإشارة إلى جهد وإبداع مذهل في التنظيم والتكتيكات (مثل الفيديوهات التوعويَّة، أو حملة المناشير التي من خلالها يتواصل الشباب والشابات مع أهالي البلدان بشكل مباشر لينقلوا قناعاتهمن) وهو جهد لم نراه منذ فترة طويلة، سادت فيه ردود الفعل المؤقتة والعاطفيَّة. من الزاوية التنظيميّة والثقافة النضاليّة، تساهم الحملة بشكل إيجابي جداً. لكن هذه الإمكانيات تستطيع أن تزدهر أكثر، وأن تتشعب لخلق مساحات نناقش فيها البدائل ونساهم في تثبيتها في وعي شعبنا، حيث من الممكن من هذه المشاريع أن يتجاوز مضمونها إلغاء خطاب المشاركة بالكنيست، ليعيد إحياء المفاهيم النضاليّة البديلة. فمثلاً يتكلم كثيرون عن إمكانيَّة إعادة مركزيَّة لجنة المتابعة ما بعد دمقرطتها، كحل بديل، (وأنا منهم/ن) فلماذا لا نوجِّه عملنا الى إثارة هذا النقاش بين النشطاء وبين الناس؟ لماذا لا نبحث بالتداعيات الإيجابيَّة والسلبيَّة لهذا الخيار أو غيره؟ فلعّل توجيه العمل إلى هذا الاتجاه يُنجِح هدف الخطوة الأولى نفسها، أي المقاطعة، حينما نصوّب باتجاه النور الضيق فيبرز ظلام آفاق الكهف.
شخصياً لا أفضِّل أن أصطف وراء شعار يعرّف نضالي كنقيض لأي شيء آخر. أنا اشتراكي قبل أن أكون "معادي للفاشيَّة"، فلسطيني قبل أن "أعادي اليمين الصهيوني"، لا تحويني هذه المفاهيم السلبيَّة، فلدي أيديولوجيا وهويّة واضحة. إنَّها نفسها المفاهيم التي يلتبسها أحزابنا في الكنيست فينشادونا بأن ندعمهم على أساسها. وبشعارٍ كالـ"مقاطعة" نحن نعيد إنتاج هذه الأساليب ولا نتفوّق عليها. أما بالنسبة لمشاركة أحزابنا بالكنيست، وتفاهتها، وعقامتها، وعدميَّتها، وعبثيتها، (و"تحالفاتها" هناك، التي لا أستطيع حتى أن أصفها بالسياسيّة) فلن أهدر امكانياتي وقدراتي حولها، لا بل لن أهدر أنفاسي عليها أو حتّى أُتعِب عَضلات فَكّي، فوقتها قد انتهى، والآن قد حان وقتنا.