قد يعتقد البعض أنني سأتحدث اليوم عن آراء مفكري ما بعد الحداثة، ولكن في واقع الأمر أنا سأتحدث اليوم عن فكرة محددة ومخصصة، وهي المشهدية، أو الفرجة أو الاستعراض أو تأثير وسائل الإعلام. ما أرغب به هنا هو شرح فكرة المشهدية من خلال مفكرين إثنين، غي ديبور وجان بودريار، وبغض النظر عن انتقادات الأول لنقاط حساسة في الماركسية، ولانقلاب الثاني من اعتبار النمط الإقتصادي هو الأهم في صياغة وعي المجتمع إلى اعتبار وسائل الاتصال أنها الأهم، إلا أن في عمل كل من المفكرين ارتباطات عميقة مع أدبيات ماركس الشاب، من خلال التركيز على عناصر الاستلاب والاغتراب.
هذه الأفكار قد تجد صدى لها في التفكيككية والبنيوية والماركسية وما بعد الحداثة، ولكن ما يعنيني هنا هو الحديث في فكرة واحدة محددة، وهي المشهدية أو الفرجة أو الاستعراض، وأثرها على الوعي الاجتماعي.
فوضى حالات وأفكار لمفكرين أساسيين سأتحدث عنهما لاحقاً
- في عام 1971م كانت أولى تجارب ما يسمى تلفزيون الواقع، واستمر التصوير لمدة سبعة شهور متواصلة، من دون كتابة ولا سيناريو. تصوير العائلة بأفراحها وأتراحها، بتجانسها وتناقضها. تعرضت العائلة إلى أزمة أثناء التصوير، وتفككت عن بعضها البعض. ماذا كان سيحصل لو لم يكن التلفزيون موجوداً؟ هل التلفزيون هو المسؤول أم أنه فقط نقل واقعة التفكك بصدفة وجود الكاميرات معلقة على الجدران آنذاك؟
يتناول هذا المثال الفكرة الأولى من أفكار المدرسة المشهدية، أو المدرسة التي انتقدت الواقع المشهدي، فهي ترى بأن الخبر لم يعد ينقل الحدث، وإنما بات الخبر يصنع الحدث، أو أن الوسيط الإعلامي يصنعه، وقد يصنعه أحياناً من الفراغ، أو أنه يشكل عاملاً أساسياً في صناعته. فهم يرون بأن الأفراد يتحركون بمنطق مختلف عندما يتفرجون على أنفسهم، أو عندما يتفرجون على أنفسهم. يقول المخرج بأن العائلة كانت تعيش وكأن التلفزيون لم يكن هناك، ويرد أحد منظري المشهدية بأن هذا كلام أخرق. يعتبر مفكر المشهدية أن واقع الأسرة انتقل إلى مرحلة فوق الواقع، وشبه ذلك بأفلام البورنو حيث أن الإغراء هو ماورائي أكثر مما هو جنسي. “عائلة لود الميسورة في وضعها المهني وأحوالها الاقتصادية، قبلت أن تقدم نفسها للتلفزيون لتموت بذلك”. يقول هذا المفكر تلفزيون الواقع عبارة ملتبسة، فهل ما جرى مع عائلة لود يمثل تلفزيون الواقع أم واقع التلفزيون؟ الناس هنا لا يشاهدون التلفزيون، وإنما هو يشاهدهم. يرى مفكر المشهدية بأن الوسيط لم يعد وسيطاً فقط، وإنما اندمج مع الرسالة وتشابك معها، وهذه هي صيغة العصر الجديد، المشهد يتأثر بالوسيط، كما يتأثر المؤدون والمشاهدون، إن ما يجري ذوبان الحياة في التلفزيون وذوبان التلفزيون في الحياة. إن مفكر المشهدية هنا يفرق بين الاصطناع والإخفاء والادعاء، وهي مستويات ثلاثة تتناسب مع واقع الإعلام الحديث.
- العراق: أظهرت استطلاعات الرأي الأمريكية عام 2001م أن 52% من الشعب الأمريكية يؤيدون غزو العراق. بعد خطاب كولن باول في الأمم المتحدة، الذي قال فيه أنه يمتلك أدلة قاطعة على امتلاك صدام حسين أسلحة دمار شامل، ارتفعت نسبة الدعم للحرب ب 6%. وبعد الإعلام الموجه في تفجير البرجين ارتفعت نسبة الداعمين للحرب إلى 72%. في عام 2004م بعد شح المعلومات في الإعلام عن أسلحة الدمار الشامل انخفضت نسبة الداعمين للحرب إلى 33%.
يعتقد مفكرو المشهدية بأن وسائل الإعلام لا تبتزنا فقط، وإنما تتغلغل فينا. وتتلاعب بانطباعاتنا. إن المشهد يحول مجرى الواقع كذلك إلى واقع. لقد كتب أحد كتاب ما بعد الحداثة والمشهدية عما جرى في العراق ثلاثة مقالات (حرب الخليج لن تقع، هل حرب الخليج تقع، حرب الخليج لم تقع)، وكان يقصد من سلسلة مقالاته أن الانطباعات عن مجريات الحرب في العراق كانت من تصميم وسائل الإعلام، ونفس الكاتب أيد تفجير الأبراج في مقالة بعنوان صلاة لراحة البرجين التوأمين.
- القضية الفلسطينية : تكثر الفعاليات تحت عنوان “لن ننسى”، و “حراس الذاكرة”، وغالباً ما يتبنى هذه الفعاليات شبان لم يعيشوا تلك المأساة، ولا تربطهم بها تجربة عملية واضحة، وكثيراً لا يكونوا من المتضررين بنتائج الحدث التاريخي المؤلم، أي أنهم ليسوا من الفقراء، ولم يشكلوا برجوازية وطنية وإنما شكلوا برجوازية طفيلية جمعت الثراء على إسم الثورة الفلسطينية. فأي نوع من المشهدية هذه؟
تناول أحد كتاب المشهدية الحديث عن الهولوكوست، وكان يرمي إشارات واضحة عن القضية الفلسطينية التي تضامن معها بشكل واضح. لقد كانت أفكاره عملياً تصب في المكان التالي:
يعتبر المشهديون أن نسيان الإبادة أمر بالغ الخطورة، لأن نسيان الإبادة السابقة قد تؤسس لتذكر الإبادة القائمة، ومن هنا كان لا بد من استحضار ذاكرة اصطناعية تستبدل نسيان الإبادة الماضية. وهذه الذاكرة الاصطناعية ببعدها الجملي، إنما هي قشعريرة ردعية، تتجه نحو الماضي (حدث بارد ومأساوي) وتردع الجمهور من الإحساس بالإبادة القائمة الآن وهنا. مشهد الماضي يبرد الواقع القائم، وكأن تلك المشاهد لن تتكرر اليوم، مع أنها تحدث كل يوم. يطالب هذا الكاتب بإعادة الاعتبار للاجتماعي الساخن بدلاً من مسخ البارد. وفي نفس السياق يتحدث عن الهولوكوست على أنها حدث متلفز فقط، إنها صورة لا مرجعية لها، نسخة لا أصل لها، ولكن تلك الصورة، أو تلك النسخة، أو ذلك المشهد فعل فعلته في اليهود. إن الفرق بين إبادة الماضي وإبادة الحاضر تظهر في حجم التفاعل مع ما يجري اليوم في فلسطين مع التفاعل في ذكرى احتلال عام 1948م.
- البانوراما والتحشيد (تختلط علينا الذاكرة، متى حدث ذلك هذا العام أم العام الذي سبقه؟، وفي ذلك إشكالية أشار لها المواقفيون تحت عنوان الزمن الدوري): في نهاية كل عام تتسابق وسائل الإعلام في إنتاج البانوراما الخاصة بأحداث السنة الفائتة، ويتذكرها الناس بنفس البعد الجمالي المذكور في القضية الفلسطينية، ويشعرون بالحدث البارد. ضمت بانورامات سابقة، حادثة الشهيد رائد زعيتر، قصف الطيران الصهيوني لسورية، إسرائيل تشن حرباً على مدار 50 يوماً على غزة، وستضم بانورامات لاحقة وقوع الكساسبة ضحية في أيدي التنظيمات التكفيرية ألقته بينها قوات التحالف، وسعيد نشر صورة الطفل السوري على الشواطئ التركية.
الذاكرة القصيرة تنتج انفعالاً سريعاً وغير دائم، إن التفاعل السريع مع هذه الأحداث لا يتسق مع الموقف الدائم من نسخها المتكررة التي لا تظهر مشهداً. وتقسيم الأحداث وفصلها وتضخيم عددها يحاول إلغاء مشهدها الكلاني، تماماً كما تفعل منظمات التمويل الأجنبي في قضايا الصراع الرئيسية. الإعلام بمشهديته الكثيفة يتحول إلى حفرة امتصاصية لامتصاص المعنى المتعلق بالحدث، ولإلغاء سياقاته. إنه نفس منطق المعرفة الموسعة أفقياً التعرض لأكبر مساحة من الأفكار دون التعمق في واحدة منها، التعرض لمساحة أفقية واسعة من الأخبار دون التعاطف الدائم مع أي واحد منها، إنه تآكل المعنى بفعل تخمة الأحداث التي تمر عرضياً. إن المشهد هنا يمثل ثقباً أسوداً يمتص حدة الواقعة ومعناها.
- التسويق وتشجيع الحرمان: قال لي أحد المديرين الكبار لإحدى شركات تصنيع الهواتف النقالة، أن مجال عملي هو أن يلتقط المستهلك المنتج حال مشاهدته لها على الرف. من كتاب “كيف يفكر المستهلكون؟” لجيرالد زالتمان: كم نسبة الأشخاص الذين يفصلون السلعة بسعر 9.99 على سلعة بسعر 10 دنانير؟ عندما تغمض عينيك لتذوق طعم سلعة معينة تختار أ وعندما تفتحهما تختار ب.
وهذا يتناسب مع مقولات أحد مفكري المشهدية : “يتحول الواقع إلى صور بسيطة، تصبح الصور البسيطة كائنات واقعية، وحوافز فعالة لسلوك في حالة تنويم”، “إن مبدأ الندرة في الإقتصاد القديم، قد حلت مكانه آليات تشجيع الحرمان من خلال المشهد”.
- الأحزاب السياسية: إننا نريد البقاء حاضرين في المشهد.
التيارات السياسية التي تبنت آراء المدرسة المشهدية خرجت من أوساط فنية وفكرية، لقد كانت من الحالات الأولى التي جمعت المفكر بالسينمائي بالرسام بالموسيقي، وكانت التيارات السياسية الخاصة بهذه المدرسة، ترى بأن الحركات السياسية التي تريد الحفاظ على نفسها في المشهد، فإنها تخرج من الواقع الفعلي، ولذلك لا بد الخروج من المشهد كي تتمكن من تحصيل موقع في الواقع الفعلي. لقد وجهت التيارات السياسية المنبثقة عن المدرسة المشهدية نقداً لاذعاً للأحزاب القائمة، وعلى رأسها أحزاب اليسار، وكان النقد يتأسس على أن الانضمام الرمزي لمجتمع المشهد لا تعني إلا معارضة من داخل النظام، وضمن حدود شروطه.
لم تسيطر المجتمعات الحاملة للاستعراض على المجتمعات الأخرى من خلال الهيمنة الإقتصادية فقط، وإنما من خلال تأسيس مفهوم الاستعراض نفسه، في تشكيل نفس البنية الاقتصادية، وتشكيل طبقة حاكمة تشرف على تشكيلها. وهي كما تقدم السلع الزائفة للجمهور، تقدم كذلك الوصفة الزائفة للأحزاب السياسية.
- الدين والصور والرموز: نعلق صور المسيح والعذراء في بيوتنا، ونعلق صور الكعبة والمسجد الأقصى، ويعلق آخرون صور لحيوانات مقدسة. فأين يكمن المشهد والواقع الفعلي من ذلك عند المشهديين؟
لنبدأ بربط المدرسة المشهدية بالطوطم والحرام عند فرويد، التي سأتناول فيها مسألة توارث الطوطم بالتحديد، ما هو الطوطم؟ إنه بصفة عامة حيوان من الحيوانات، يؤكل لحمه، أو غير مؤذ، وهو بذلك يؤمن الغذاء للعشيرة وهو ولي نعمتها، أو بالمعنى الآخر المغاير تماماً، هو حيوان خطر جداً، يؤمن الحماية لأبناء العشيرة ويشكل الخطر على أبناء عشيرة أخرى أو ربما يمثل قوة طبيعية ما، ماء، نار… يتحدث فرويد في الطوطم والحرام أن هذه القبائل التي كانت تعلق صور الحيوانات، ربما كانت على علاقة عميقة مع حيوان من الحيوانات، وكانت تستفيد منه، وربما كانت ترتعب من ظاهرة طبيعية ما فتصنع لها طوطماً، ومع مرور الزمن، وإن اكتشفت هذه المجاميع البشرية سر الظاهرة أو قل اعتمادها على الحيوان أو تلاشى يبقى الطوطم حاضراً، وهذا ما أعرب عنه أحد مفكري المشهدية: الصورة تعبر عن حقيقة عميقة، ثم تشوه حقيقة عميقة معينة، ثم تخفي غياب تلك الحقيقة “وهذا ما أسموه اللامرجعية الإلهية للصور”. ومن هنا يتساءل الكاتب المشهدي، هل كان رجال الدين الرافضين للتصوير والرسم على حق؟ هل فعلاً ادركوا غياب المرجعية السامية وأن تمثيلها في الصوروالأيقونات سوف يلغي الفكرة في تجريدها؟ أم أن الحفاظ على الأيقونات سيخفي غياب الحقيقة العميقة؟
- النجوم والمشاهير: ماذا لو قمنا بعمل إحصائية لمبيعات قمصان لاعب كرة القدم ميسي؟ أو نظارات شمسية شبيهة بنظارات إلفيس بريسلي؟ أو رواج قصة شعر لمذيع وسيم أو مذيعة جميلة؟ ولو عمل القصة الجديدة مذيع آخر قبل تحولها إلى قصة معروفة، تبادر وسائل الإعلام بمهاجته بالتقليد ! أما الناس العاديون فليسوا كذلك. ماذا يعني المشاهير والنجوم بالنسبة للمشهديين؟
يجادل مفكر المشهدية بأن الشخصية المشهورة هي التمثيل الاستعراضي للإنسان الحي، و “نقيض الفرد”، وهي التمهي مع الحياة الضحلة الجافة من العمل الفعلي، ونتيجة التفتيت للاختصاصات الإنتاجية. الشخصيات المشهورة هم المواطنون النموذجيون الذين يعوضون عن عجز مشاهديهم عن أن يخبروا الواقع بأنفسهم (تذكر تجربة محمد عساف في أراب آيدول، كيف عبر فوز محمد عساف عن فوز فلسطيني، لمسابقة لم يكن العدو حاضراً فيها أصلاً، إنه عجز المشاهد عن الانتصار الواقعي والحقيقي، والمشاركون الآخرون تملكوا القشعريرة الردعية في التضامن مع الفلسطيني وإهدائه فوزاً وهمياً يعوض الخذلان الواقعي). إنهم الناس المثيرون للإعجاب الذين يكرس النظام نفسه فيهم، والذين هم، رغم ذلك، معروفون جيداً بأنهم ليسوا على ما هم عليه.
والشخصية المشهورة لا تلعب هذا الدور في الفن فقط، وإنما في السياسة، أذكر أن احد الناشطين السياسيين ألقى خطاباً منسوخاً من خطاب لجورج حاوي كما هو، وباللهجة اللبنانية “جزء من هذا الشعب”.
- فضيحة ووتر غيت، أحداث شبيهة مثل زيد الشوابكة. في حادثة ووترغيت أدان المجتمع الامريكي السلوك غير الأخلاقي في التنصت الذي قام به الرئيس نيكسون. في حادثة بيل كلينتون انتفض المجتمع الأمريكي، المنفتح جنسياً أصلاً، على سلوك الرئيس الأمريكي. ومؤخراً انتفض الشعب على سلوك النائب الأردني في الاعتداء على العامل المصري.
هنالك حالات في الإعلام تأخذ حيزاً واسعاً من التفاعل والاستقطابات، يتم تصدير حالة على أنها استثناء، الأمر الذي يعني أن باقي الواقع سليم معافى، وجود والت ديزني لا يعني أنها غير موجودة في الخارج، ووجود السجون لا يعني أنها غير موجودة خارج أسوارها. كان من المطلوب آنذاك أن يخرج أحد السياسيين ويقول أن ووترغيت ليست فضيحة أصلاً. يقول أحد المفكرين المشهديين “جوهر أي ميزان قوى، أن يحجي نفسه كميزان قوى، ولهو لا يتخذ قيمته إلا إذا حجب حقيقته هذا”. وهنا فسروا قولهم كالتالي، الرأس مال، وهو عديم الاخلاق والذمة، لا يستطيع أن يمارس دوره إلا من خلال بنية أخلاقية تحتية، ومن يجدد هذه الأخلاق من خلال السخط والتشهير يعمل في نهاية المطاف لصالح رأس المال
- المفاعلات النووية وجدية استخدامها: الولايات المتحدة، وبريطانيا، وفرنسا، وروسيا، والهند، والباكستان، والصين، وإسرائيل. جميعها تمتلك مفاعلات نووية. الولايات المتحدة وروسيا تتصارع في الساحة الدولية، الهند والباكستان تقتتلان تاريخياً… هل ستنفجر المفاعلات النووية يوماً ؟ هل كانت تجربة ناغازاكي وهيروشيما تجربة عابرة. ما المشهد عند المشهديين في حرب المفاعلات النووية؟
إن مشهد الردع من امتلاك الأسلحة النووية كاف، ولن يتجاوز الأمر هذا الحد. إن هذا الردع هو بنية كونية للقضاء على الرهانات والطموحات. إن الحرب الذرية، كحرب طروادة، لن تقع. وهنا يرى المشهديون أن ممتلكوا النووي كممتلكي الرساميل العالمية، فليس هنالك مرجعية تدمير واقعية للأولى، وليس هنالك مرجعية إنتاج واقعية للثاني. إن دخول النادي النووي مثل دخول النقابات العمالية، حيث تنحسر إمكانية استخدام العنف.
- تحدث المشهديون عن الزمن الدوري، وكانوا يقصدون بذلك تقسيم الحياة إلى حياة خاصة وحياة سياسية وحياة إقتصادية، التقسيم إلى عمل وراحة أسبوعية، ورحلات جماعية لقضاء الإجازات. كان يقصد المشهدين من هذا الطرح أننا بتنا نتفرج على حياتنا من بعد، إننا لا نحياها إننا نتفرج علينا لأننا إحساسنا بالزمن المقسم إلى وحدات قد ازداد، وبتنا نخشى انقضاء وحدة ومجيء أخرى.
من الأمثلة السابقة،عشرة نقاط أساسية تؤسس لفهم كتّاب المشهدية، الخبر قد يصنع الحدث أيضاً، الإعلام لا يبتزنا فقط، وإنما يتغلغل فينا، المشهدية فيها شق ماضوي يحجب الشعور بالواقع المعاش ويولد ذلك قشعريرة ردعية على شاكلة الشعور بالقضية الفلسطينية، المساحة الأفقية للمشهدي واسعة إلى الحد الذي تمتص فيه وسائل الإعلام حدة المعنى وتتحول إلى حفرة امتصاصية، الندرة في الإقتصاد القديم تم استبدالها بتشجيع الحرمان في فضاء الاستهلاك الموسع، وجهت نقد لاذع للتيارات السياسية القائمة وتحدياً لليسارية في اندغامها في المشهد القائم، الصور التي تحملها الأديان تخفي خلفها غياب الحقيقة العميقة، الشخصية المشهورة هي تعويض العجز عند الجمهور، الاستثناء يحاول تزييف صورة الواقع المتبقي، المجتمع المشهدي يمتلك أداة ردعية أجهزت على رهانات الصراعات.
هي تأثير المشاهد التي نتعرض لها، كما تمت تسميته “قصف الصور”، تأثير هذه المشاهد من التلفزيون إلى السينما إلى إلى الإعلام عبر وسائل التكنولوجيا الحديثة ، تأثير المشاهد التي تعرضها وسائل الاتصال الحديثة على وعي البشر.
وهذه المدرسة تجاوزت فكرة تحريف الواقع المعاش من خلال المشهد المعروض، إلى استبداله بالكامل، ففي السياسية طرحت مسألة ولادة الحدث من الخبر، وفي الاقتصاد ولادة الحاجة من التسويق، وفي الدين سيطرة الصورة والرمز لتحل محل الرواية التاريخية، وفي الحب استبدال الواقع المعاش بالصورة.
وفي شق آخر اعتبرت هذه المدرسة المشهدية أنها تعني تجمد الإنسان عن الفعل في الواقع، وعن الإحساس فيه، التجمد أمام المشهد المطروح، ومن ذلك مشاهدة كرة القدم بدلاً من لعبها، وبذلك يحل المشهد مكان الواقع المعاش والخبرة الفعلية للأفعال، وهي فكرة تعرض لها فيورباخ في جوهر المسيحية، أن الرمز يحتل مكانة أكثر فعالية من الشيء الذي يشير إليه أصلاً.
وهنا لم تنأى هذه المدرسة بنفسها عن دور تحكم رأس المال بهذه الوسائل، فقد كانت مدرسة بالأساس معارضة جذرياً للرأسمالية، وإن جنح بعض مفكريها إلى تحميل المسؤولية إلى الوسيلة في ذاتها، التلفزيون، والانترنت، والإعلام المقروء الذي تراجع حظه بشكل ملحوظ.
اعتقد البعض أن هذه المدرسة، التي عبرت عن نفسها كتيار ماركسي، أنها مدرسة لا تتبع منهجية الجدل المادي، وإنما هي مدرسة مثالية بامتياز، ولكنني أرى أن ما فعلته هذه المدرسة هي التركيز في دراسة شروط البنية الفوقية، التي أنتجتها العلاقات المادية والاقتصاد، وتخصصت في دراسة تلك النتائج، إنها مدرسة متخصصة في دراسة الكوارث التي أنتجها النظام الرأسمالي، في تفكيك الإنسان من الداخل، وتفكيك ذائقته ومكننة هذه الذائقة، ولذلك اقتربت هذه المدرسة من علو الاتصال والإخراج وعلم النفس.
غي ديبور وبودريار
هو فيلسوف فرنسي متخصص باللغة الألمانية، معلق سياسي، شاعر، ومصور. يعتبر من أبرز مفكري ما بعد الحداثة، ولد في منطقة ريفية في فرنسا عام 1929م، وتوفي عام 2007م في فرنسا أيضاً.
اعتنق الماركسية منذ شبابه، عمل في بداياته كعامل زراعي وكعامل في البناء. التحق بالصوربون ليتخصص أكثر في اللغة الألمانية، الأمر الذي ساعده على قراءة العديد من المراجع الفلسفية المهمة، وعمل كمترجم مع دور النشرللعديد من المصادر الألمانية إلى اللغة الفرنسية. كان من المنظرين لاحتجاجات الطلبة عام 1968م، قبل أن ينسحب منها ويقول، كيف لي أن أتحدث عن نظرية جديدة للسياسة، وأنا لا أعتبر وعي المجتمع إلا وهم؟
التحق بالمجال الأكاديمي، ولم يكن يراعي القواعد الاكاديمية في أبحاثه، الأمر الذي خلق مسافة بينه والدوائر الأكاديمية التقليدية. اتخذ موقفاً لاذعاً من الجامعات واعتبر شهاداتها فارغة لا معنى لها. لم يعترف بف السوسيولوجيون ولا الفلاسفة، وبذلك بقي هذا الرجل معلقاً بين الفلسفة وعلم الاجتماع، ولم يكن ينتظر أي تصنيف.
له عدد كبير من المقالات والكتب . من كتبه “نظام الأشياء”، و “نحو الاقتصاد السياسي للرمز”، و “الاصطناع والمصطنع”، و”التبادل الرمزي والموت”، و “التبادل المستحيل”، و “في الإغواء”. ومن مقالاته الملفتة ” حرب الخليج لم تقع” (الإعلام وواقع الأشياء)، و “صلاة لراحة البرجين النائمين” (الغرب لا يقبل الاختلاف، والمفهوم الحقيقي للعنف، وضرورته من بوابة أن المجتمع الذي لا يوجد فيه صراع يموت، ومن هنا أسس لفكرة أن المجتمع الرأسمالي هو مجتمع لا صراع واضح بمرجعيات فيه). يقول البعض أن فيلم ماتريكس تأثر بالعديد من أفكاره.
غي ديبور هو كاتب سينمائي، مفكر، وشاعر فرنسي، ولد عام 1928م وتوفي عام 1994م. كان من أبرز المعارضين للحرب الفرنسية على الجزائر. من أبرز المشاركين في أحداث ثورة الطلبة عام 1968م. أشهر أعماله هو مجتمع الفرجة الذي تناولنا تلقائياً العديد من الأفكار المطروحة فيه.
الأممية المواقفية، أو الأممية المشهدية
- عرف المواقفيون أن الرأسمالية لحظة مجمدة من التاريخ من المستحيل أن نخبر فيها العالم المعاش. ولم يعد الناس فيها مستلبين عن إنتاجهم فقط بل وعن مشاعرهم وإبداعيتهم ورغباتهم.
- اعتبر المواقفيون أن المسافة التي تفصلهم عما أسموه الماركسية الأرثوذكسية، هو إدخالهم للمطالب الجذرية للإبداعية والرغبة والمتعة واللهو.
- لم يكن لدى المواقفيين أي احترام لفكرة التضحية بالحاضر من أجل المستقبل، وكان برنامجهم يتضمن مطالب فورية، وفي ذلك كانت اقتباسات لشكسبير “أيها السادة، الحياة قصيرة، وإن كنا نحيا، فإننا نحيا لنطأ الملوك”.
- انضم المواقفيون إلى موقف مضاد لفكرة الطليعة الثورية. نحن هيئة أركان بلا جنود.
- نبذوا الأكاديمية ووسائل الإعلام جميعها.
- تأسست نظرياتهم على أعمال مفكرين أساسيين: غي ديبور وفانيجيم “ثورة الحياة اليومية”، كما تأثرا بعمل هربرت ماركوزه، الإنسان ذو البعد الواحد. وتعتبر هذه الأعمال هي إعادة إنتاج لأعمال ماركس الشاب “المخطوطات تحديداً” وتفسيرات لوكتش لمفهوم التشيؤ.
- تعتبر هذه المدرسة أن النظام الرأسمالي لم يطرأ عليه أي تغير كيفي منذ عصر ماركس، ويعتبرون أن امتداد التسليع إلى مختلف مجالات الحياة يتطلب تطوير نموذج معارضة آخر غير انفجار علاقات الإنتاج من الداخل. وفي هذا تتقاطع مع ما بعد الحداثة في أن التاريخ لا يسير في مسار محدد، سواء كان مسار اشتراكياً كما نبأ ماركس، أو مساراً عقلانياً كما تنبأ ماكس فيبر. وليس بالضرورة أن يتقدم، وهذا يفتح نقاش واسع حول الحتمية التاريخية تحديداً (نقاش لينين مع ميخائيلوفسكي، القدر والحتمية التاريخية). والعنوان الأساسي للثورة يجب أن يتأسس على حالة السأم التي يخلقها النظام الرأسمالي لأناس يتفرجون على أنفسهم. “من شعاراتهم: لا أحد يكون لديه عند عودته من مغامرة الحماس الذي كان لديه عند الشروع بها، إن المغامرة قد ماتت”. ومنها “لا يشعر الإنسان بنفسه إلا خارج عمله، وفي عمله يكون خارج نفسه، يحس بأنه في مكانه لا يعمل، وحين يعمل لا يحس بأنه في مكانه”.
ولكن الخروج منه يتطلب المطالبة بالتغيير الفوري للحياة اليومية. وهنا طبعاً يمكن مناقشة آراء الحركات السياسية المنبثقة عن المشهديين في بند خاص بالنقد، حيث وجهوا انتقادات للتنظيمات الهرمية “عرفوا عن أنفسهم هيئة أركان بلا جنود”، والتجربة السوفيتية، وغيرها.
نقد
- العلاقة الصريحة والواضحة مع أنمط الإنتاج (المرور على النقاط العشرة) مع أنهم عادوا تماماً النظام الرأسمالي. في واقع التلفزيون لم يركزوا كثيراً على علائق القوة التي تتحكم التفزيون، وهكذا الأمر في وسائل الإعلام الأخرى، وفي تصنيع النجوم والمشاهير، وفي شكل إدارة العلاقة مع الأحزاب السياسية.
- توصيف مؤلم للواقع القائم، تفسيره من بنيته الفوقية وعلاقات الأشياء فيها، لم يعطوا البنية التحتية حقها بحكم عداءهم الجارف للماركسيين الاقتصادويين، إنهم حركة كشفت إشكاليات الواقع المعاش، دون التركيز كثيراً على أسبابه الجوهرية، ودون التفكير في واقعية الخلاص منه. إنهم يبعثون الألم، والجنون، وهم مجنونون تماماً، ولكنهم مخلصون للإنسان.
- الهرمية والتنظيم، في الحركة نفسها، وفي شكل الدولة.
- أصول الأفكار في أدبيات ماركس الشاب “تحديداً المخطوطات”، وجورجي لوكاتش كذلك في نظرياته عن التشيؤ.
- “تقوم فرضيّتي هنا على أنّ الفلسفة المسكونة بأزمة سياسيّة تجد نفسها أمام خيارين اثنين: فإما أن تواجه واقعها ذاك دون القفز فوقه، وفي مثل هذه الحالة تُخلي الأسئلة النظرية مكانها شيئاً فشيئاً أمام أسئلة ذات طابع عمليّ حيث تجد الفلسفة نفسها منخرطةً في مهمة تغيير العالَم على الطريقة الماركسية، بدلاً من الاكتفاء بتأمله على طريقة هيغل، وإما أن تتمرَّد على واقعها السوداويّ الذي تجد نفسها فيه، وذلك بلجوئها إلى النقد الجذريّ وإلى اليوتوبيا المُتجسِّدة في قوّة السَّلب الكامنة في الفنّ الذي يُقدِّم الخلاص أو البديل عن واقعٍ قاتم وسوداويّ. سأحاول في مقالي هذا أن أوضِّح كيف أن الجيل الأوّل لمدرسة فرانكفورت ممثلاً بهوركهايمر وأدورنو قد بدأ بالحلّ الأول، لكنه انتهى إلى الثاني” مقال لخلدون النبواني. معهد الدراسات الاجتماعية الذي تأسس عام 1923م كمعهد للدراسات الماركسية هو نفسه الذي تطور لاحقاً إلى مدرسة فرانكفورت.
- أنت لن تتمكن من تغيير الوعي دون السيطرة على مؤسسات الدولة الأيديولوجية، ولن تتمكن من السيطرة على تلك المؤسسات دون بناء وعي ثوري، وهنا تكمن المشكلة الكبرى !
الماركسية وما بعد الحداثة
تعريفات خاصة
- الحداثة في تعريفها الكلاسيكي هي الفردية والعلمانية “العقلانية” والتصنيع والنظام السلعي والتحضر.
- ما بعد الحداثة: عصر التطور التكنولوجي والصناعي وانعكاسات هذا التطور على المجتمع. وسائل الاتصال ووسائل الإعلام (مانويل كاسيل، ثيودور كيجينيسكي، هابرماس ).
- صدام الماركسية وما بعد الحداثة من حيث الوظيفة والشكل، وهنا أخذت على الماركسية مسألة عدم الاكتراث في البعد الجمالي للأشياء، أو الزهد والتصوف. ومن جهة أخرى عن حجم تأثير البناء الإقتصادي في المجتمع، وميل ما بعد الحداثويين إلى تأثير وسائل الإعلام والاتصال بشكل أكبر.
لكي يتغلب على الطبيعة الخارجية كان عوليس (الذي يمثل، وفقاً ﻟ “جدل التنوير” الإنسان الحديث والمتنوِّر) مُجبراً أن يقهر طبيعته الداخلية أولاً. يعود هوركهايمر وأدورنو إلى ذلك الفصل الملحمي من أوديسة هوميروس الذي كان يتوجب فيه على عوليس المرور بمركبه من أمام جزيرة حوريات البحر دون أن يسُدّ أذنيه حتى يستمع إلى غنائهن الذي لا يمكن مقاومته. قبل عوليس هذا الشرط الإلزامي لكي يواصل رحلة العودة إلى إيثاكا، وقد وجد أنّ الحل الوحيد لتجنُّب هذه العقبة في أن يقيّد نفسه بإحكام إلى سارية المركب، بعد أن طلب من رجاله أن يغلقوا آذانهم وألا يستجيبوا أبداً لأوامره وتوسلاته حتى يعبروا الجزيرة. ينجح عوليس في هذا الاختبار وفي قهر قوى الطبيعة الخارجية، ولكنه دفع حريته ثمناً لذلك عندما قيَّد نفسه إلى السارية. هكذا في ترويضه للطبيعة الخارجية يروِّض الإنسان الحديث نفسه ويخسر حريته الذاتية ويقيّد نفسه. مرَّة أخرى تتشابه سيرورة التنوير مع عالم الأسطورة وفقاً للقراءة الخلاقة لمؤلفي هذا الكتاب.
اهتمامات مفكرين فرنسيين مثل فوكو سبقتها أعمال مدرسة فرانكفورت في الأربعينيات والخمسينيات: “لو أنني قرأت تلك الأعمال سابقاً لما كان هنالك من داع لكثير مما قلته، ولتجنبت الكثير من الأخطاء”