الاعترافات بدولة فلسطين تتوالى، وتثير إنزعاج إسرائيل
وقد انعكست هذه المعطيات على الإعترافات الواسعة من قبل دول القارة ليس فقط بمنظمة التحرير الفلسطينية كممثل شرعي وحيد للشعب الفلسطيني، وهو ما حصل في وقت مبكر، وإنما أيضاً في السنوات الأخيرة خاصةً، بدولة فلسطين المعلنة من قبل المنظمة في أواخر الثمانينيات الماضية. فبعد أن اعترفت كوبا بدولة فلسطين في 16/11/1988، أي في اليوم التالي لإعلانها في دورة المجلس الوطني الفلسطيني التاسعة عشرة التي انعقدت في الجزائر، وكذلك الحكومة الساندينية في نيكاراغوا، اعترفت فنزويلا بدولة فلسطين في 27/4/2009، وافتتحت رسمياً سفارةً لفلسطين في عاصمتها كاراكاس، وذلك بعد أسابيع من قطع علاقاتها مع إسرائيل(19)، وكذلك جمهورية الدومينيكان. وجاءت موجة اعترافات جديدة واسعة بعد أن أقدمت البرازيل يوم 3/12/2010، وفي أحد آخر القرارات السياسية التي اتخذتها إدارة الرئيس لولا داسيلفا في أيامها الأخيرة قبل تسليم السلطة الى الرئيسة الجديدة المنتخبة ديلما روسيف، على الإعتراف بدولة فلسطين على حدود الرابع من حزيران/يونيو 1967.
وهي خطوة لم تلبث دول أميركية لاتينية أخرى أن اقتدت بها كما يجري في قضايا أخرى تتأثر فيها دول القارة بمواقف البرازيل، نظراً لوزنها البشري والإقتصادي، وكذلك انطلاقاً من موقف معظم هذه البلدان النقدي تجاه الولايات المتحدة وتجاه سياسات إسرائيل، كما واستجابة لدعوات فلسطينية. وبالفعل، قامت رئيسة الأرجنتين، كريستينا فرنانديس دي كيرتشنير، بعد خمسة أيام من الإعتراف البرازيلي، بتوجيه رسالة الى الرئيس الفلسطيني محمود عباس بنفس الإتجاه. وشملت الإعترافات بعد ذلك بوليفيا وإكوادور في الشهر الأخير من العام 2010، وتشيلي وغويانا وبيرو في الشهر الأول من العام 2011، وسورينام في الشهر التالي، وأوروغواي في الشهر الثالث من العام ذاته، ودول أخرى لاحقاً.(20)
وقد أشار معظم هذه الإعترافات الى حدود العام 1967 للدولة الفلسطينية، وهو ما أثار انزعاج المسؤولين الإسرائيليين. لكن اعترافي كل من تشيلي وبيرو أغفلا الإشارة الى هذه الحدود، وفق ما أورده موريس لوموان في شهرية “لوموند ديبلوماتيك” الفرنسية، حيث اعتبر أن الحكومتين في البلدين أرادتا بذلك تفادي الإدانة المباشرة والواضحة للإحتلال الإسرائيلي. ويفسّر لوموان اضطرار حكومة قريبة من واشنطن مثل حكومة بينييرا في تشيلي للإعتراف بدولة فلسطين بوجود جالية فلسطينية كبيرة. وينقل، من جهة أخرى، عن وزيرة خارجية كولومبيا، ماريا أنخيلا أولغين، قولها تعقيباً على دعوات الإعتراف التي وُجّهت لكولومبيا: “عندما يكون هناك سلام مع إسرائيل، سنعترف بفلسطين” – كما أوردت على لسانها صحيفة “إل تييمبو” الكولومبية في 1/1/2011.(21) ومعروف أن كولومبيا على علاقة وثيقة بإسرائيل في مجالات واسعة شتى، كما سنورد لاحقاً.
ويتساءل رايان بيرغر في موقع “أميريكاز كوارترلي” المختص بشؤون القارة الأميركية: “كيف ينظر المجتمع الإسرائيلي الى هذه الموجة الدبلوماسية الأميركية اللاتينية؟”، ويستطرد: “بينما الملايين الذين يسعون الى حل الدولتين يرحبون بهذه الأنباء، آخرون يرونها علامة عدم تحرك من الولايات المتحدة تجاه أميركا اللاتينية وتزايد التأثير الإيراني في المنطقة.” وينقل عن “جيروزالم بوست” الإسرائيلية في الشهر السابق لصدور مقالته، أي في أواخر العام 2010، قولها: “إن البلدان الأميركية اللاتينية التي تحتضن إيران تقوم بذلك دائماً على حساب علاقاتها مع إسرائيل”. ويتساءل عن عدم انضمام كولومبيا لموجة الإعترافات، فيجيب:”إن الرئيس خوان مانويل سانتوس وإدارته لا يعارضان دولة فلسطينية: فهما، على الأرجح، يتبنيان المقاربة الأميركية- الإسرائيلية. والبعض يشكك بأن قلة حماس بوغوتا (كولومبيا) لاتباع حذو برازيليا وآخرين يعود الى علاقات كولومبيا العسكرية والإقتصادية مع الولايات المتحدة.” ويشير الى استفادة كولومبيا من الدعم الخارجي الأميركي، حيث تتلقى أكبر دعم أميركي بالدولار خارج الشرق الأوسط وأفغانستان/باكستان، حيث “تم طلب مبلغ 465 مليون دولار من الكونغرس مساعدة لكولومبيا للعام المالي 2011”. ويقول بيرغر انه قبل توليه الرئاسة، كان “سانتوس يقيم علاقات قوية مع إسرائيل كوزير لدفاع كولومبيا.”(22) وهو ما سنتناوله لاحقاً في مجال الدور العسكري والأمني الإسرائيلي في القارة.
وعن تشيلي، يضيف بيرغر في نفس المقال: تشيلي اعترفت بـفلسطين “كاملة وحرة وذات سيادة”، لكنها لم تشر الى حدود ما قبل 1967. وكان قادة يهود في تشيلي “مرتاحين” لإغفال الرئيس سيباستيان بينييرا لذكر الحدود، خاصةً في ظل وجود جالية فلسطينية قوية من أربعمئة ألف مواطن في تشيلي. ويحتل عرب ويهود مواقع عالية في المجتمع التشيلي، ولعب وزير الخارجية الفريدو مورينو دوره الدبلوماسي جيداً عندما شكر كلا الجاليتين الفلسطينية واليهودية لـ”مساهماتهما القيمة في البلد”. ويشير الكاتب الى أنه ربما هناك سبب خاص لإغفال ذكر حدود الدولة الفلسطينية، كما أشارت مصادر حكومية لصحيفة “ميركوريو”، تتعلق بالمشاكل حول الأراضي بين تشيلي ودولتين من دول الجوار، هما بوليفيا وبيرو، حيث الأخيرة رفعت دعوى ضد تشيلي أمام محكمة لاهاي.(23)
وبالنسبة لكولومبيا، التي زارها الرئيس الفلسطيني محمود عباس في تشرين الأول/أكتوبر 2011، يقول موقع “أميريكاز كوارترلي” في مكان آخر(24) ان الرئيس الكولومبي سانتوس قام بعد هذه الزيارة بإيفاد وزيرة خارجيته، ماريا أنخيلا أولغين، الى إسرائيل “للوساطة بين الطرفين الفلسطيني والإسرائيلي بشأن استئناف المفاوضات”. ونقل الخبر عن الوزيرة انها حملت بعد عودتها اقتراحاً من رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نيتينياهو موجهاً للطرف الفلسطيني يقضي باستئناف المفاوضات مقابل تجميد الإستيطان في “الأراضي الحكومية في الضفة الغربية”. وهي صيغة مخاتلة، إذا صحّ الخبر، لكون الإستيطان استمر بعد ذلك وبدون انقطاع واستمر نيتينياهو في رفض وقفه أو تجميده. ولكن الجانب الكولومبي أراد بتحركه هذا أن يظهر أن له دوراً ما في صراع الشرق الأوسط مع الإحتفاظ بعلاقاته المتينة مع الجانب الإسرائيلي ورفع بعض الحرج تجاه دول أميركا اللاتينية الأخرى وشعوب المنطقة. وقد لاحظنا ان كولومبيا هي الدولة الكبيرة نسبياً الوحيدة بين دول القارة التي لم تصوت لصالح قرار التعامل مع فلسطين كدولة مراقبة غير عضو في الأمم المتحدة في أواخر العام 2012.
من جانبه، قام رئيس جمهورية الدومينيكان، ليونيل فيرنانديس، بجولة في الشرق الأوسط في أواسط حزيران/يونيو 2011 شملت لقاءات مع الرئيس الفلسطيني محمود عباس والرئيس الإسرائيلي شمعون بيريس والملك عبد الله الثاني في الأردن، صرح خلالها بتأييده لإقامة دولة فلسطينية مستقلة ودعا الى السلام مع إسرائيل، وفق التقرير.(25)
ويشير خاييمه داريمبلوم، وهو كان سفيراً لكوستاريكا في الولايات المتحدة بين العامين 1998 و2004، ويشغل حالياً مهمة مدير لمركز دراسات أميركا اللاتينية في مؤسسة هدسون الأميركية، في رسالة إعلامية بتاريخ 23/6/2011، الى تفاجؤ الولايات المتحدة وإسرائيل وانزعاجهما من هذه الإعترافات بدولة فلسطين، وسعي إسرائيل للعمل على وقفها. وينقل عن نائب وزير الخارجية الإسرائيلي آنذاك، داني أيالون، زعمه في تصريح نشرته صحيفة “جيروزالم بوست” الإسرائيلية ان “غالبية بلدان أميركا اللاتينية الـ 35 إما هي ضد الإعتراف بدولة فلسطينية مستقلة في الأمم المتحدة في أيلول/سبتمبر أو هي بصدد إعادة التفكير في موقفها”. وادعى أيالون ان إسرائيل “أوقفت قوة دفع” الحركة الدبلوماسية الفلسطينية في أميركا اللاتينية.(26) وهو إدعاء نفاه تصويت غالبية ساحقة من دول القارة في أواخر العام 20122 لصالح دولة فلسطين.
ويضيف خاييمه داريمبلوم في رسالته: “وأبعد من المسألة الفلسطينية، لدى إسرائيل سبب جيد لزيادة نشاطها الدبلوماسي في النصف الغربي من الكرة الأرضية (أي القارة الأميركية). فالسياسيون الأميركيون اللاتينيون اليساريون كانوا تقليدياً مناهضين للولايات المتحدة، وهم الآن يصورون إسرائيل كمجرد ألعوبة بيد واشنطن. وتبقى اللاسامية واسعة الإنتشار في أميركا اللاتينية، وخاصة في الأرجنتين، البلد الذي لديه تاريخ فاشي عميق الجذور. ولسوء الحظ، شهدت السنوات القليلة الماضية قفزة مقلقة للعنف المعادي للسامية”، برأي الكاتب. ونقل عن صحيفة “كريستشن ساينس مونيتور” في آب/أغسطس من العام 2009 أنه “في أنحاء أميركا اللاتينية، يقول القادة اليهود بأنهم يلحظون مستوى جديداً من اللاسامية”. وترى الصحيفة انه يمكن إعادة جذور هذا التصعيد الى حرب كانون الأول/ديسمبر 2008 على غزة.
ونغمة اللاسامية هذه تحتاج الى تمحيص لكونها مجال خلط من قبل المسؤولين الإسرائيليين والقيادات الصهيونية بين أي نقد للسياسات الإسرائيلية وتهمة العنصرية ومعاداة اليهود دائمة الإستحضار.
ويضيف داريمبلوم: “علينا أن نلاحظ أيضاً وجود جاليات عربية واسعة في العديد من بلدان أميركا الجنوبية. على سبيل المثال، هناك ثلاثمئة ألف مواطن من أصل فلسطيني في تشيلي، بالمقارنة مع 30 ألف يهودي فقط. وفي الأرجنتين، هناك 3،5 مليون مواطن من أصل عربي مقابل 182,000 يهودي فقط. وفي البرازيل هناك 1،5 مليون عربي وأقل من 96000 يهودي. وهذه الأرقام لا يمكن فصلها عن الموجة الأخيرة للإعترافات بالدولة الفلسطينية”، على حد قوله. ومن الواضح أن هناك اختلافاً في هذه الأرقام عن مصادر أخرى حول تعداد الجاليات في بلدان القارة، وخاصة بالنسبة للجالية العربية في البرازيل.
ويضيف الكاتب: “وأخيراً، هناك الثيوقراطية الإيرانية التي وسّعت حضورها الإستراتيجي في النصف الغربي من الكرة الأرضية، خاصة من خلال تحالفها مع فنزويلا، ولكن أيضاً من خلال الشراكات المتنامية مع بوليفيا وإكوادور ونيكاراغوا، التي لديها كلها حكومات شعبوية يسارية”، على حد تعبيره. ويزعم الكاتب ان حكومة الأرجنتين، حسب بعض التقارير، اقترحت، “مقابل تنازلات إقتصادية”، وفق ما ذكره، “وقف التحقيقات في التفجيرين الإرهابيين المدعومين من قبل إيران واللذين ضربا السفارة الإسرائيلية (في العام 1992) ومركز”آميا” للجالية اليهودية (في العام 1994) في بوينوس آيريس”. وزعم الكاتب ان “علاقات إيران الإقتصادية مع أميركا اللاتينية ساعدتها في تحمل ألم العقوبات العالمية التي تستهدف الحد من برنامجها النووي، الذي يشكّل تهديداً وجودياً للدولة اليهودية. وأكثر من ذلك، فإن تقريراً لوزارة الخارجية الإسرائيلية في العام 2009 حصلت عليه وكالة “أسوشيتد برس” يشير الى ان فنزويلا وبوليفيا يوفران اليوارانيوم لإيران”.(27)
وهكذا، تعود الاسطوانة الإيرانية في العديد من مقالات أنصار إسرائيل، لمزيد من التحريض على الأنظمة اليسارية في أميركا اللاتينية وعلى إيران نفسها بالطبع، في آنٍ واحد، والغرض هو استنفار واستدعاء تحرك الولايات المتحدة والدول الأوروبية بشكل خاص ضد المستهدفين بالتحريض في القارة وفي الشرق الأوسط على حد سواء.
ويقول خيرالدو ريفيرا، أحد المعلقين الرئيسيين لمحطة تلفزيون “فوكس نيوز لاتينو”، انه حتى رئيس هوندوراس المنتخب مؤخراً ضد رغبة الكثيرين (أي بعد الإنقلاب العسكري على الرئيس الشرعي مانويل سيلايا في العام 2009)، بورفيريو لوبو سوسا، أعلن تأييده لمبدأ الدولة الفلسطينية في الأمم المتحدة، مما أزعج الإسرائيليين، فأبقوا سفيرهم الجديد لديهم “للتشاور”. والخطوة كانت مفاجئة لكون العلاقات العسكرية متينة بين هوندوراس وإسرائيل، حيث معظم سلاح هوندوراس وتدريباتها من إسرائيل، وكان هناك وفد عسكري عالي المستوى من هوندوراس في إسرائيل في نفس الفترة. ويخلص ريفيرا الى القول انه في حال عرض المسألة على الجمعية العامة للأمم المتحدة “من الواضح أن أميركا اللاتينية ستعمل لفلسطين ما عملته لإسرائيل عند ميلادها”.(28) وقد صوتت هوندوراس بالفعل لصالح الإعتراف بفلسطين دولة مراقبة غير عضو في أواخر العام 20122.
ويكتب بيير كلوشندلر في وكالة “إنتر بريس سيرفيس”: إن المسؤولين الإسرائيليين يخشون من “تأثير الدومينو”، حسب تعبيره. ويضيف: رغم تصريحات الإنزعاج الإسرائيلية، كتب نائب وزير الخارجية الإسرائيلي داني أيالون في موقعه الخاص (بلوغ) على شبكة الإنترنت: “إن دول الفيسبوك حقيقية أكثر من فلسطين”، مضيفاً ان السلطة الفلسطينية تبحث عن “أصدقاء إفتراضيين” في محاولة لإيجاد “دولة إفتراضية”، ويواصل نائب الوزير الإسرائيلي فيكتب “إن الحكومات غير المسؤولة تسرع الى التعبير عن “محبتها” للدولة الفلسطينية (يستعمل هنا تعبير “لايك” الدارج على صفحات فيسبوك) بدون أن تقوم فعلاً بتقدير مقوماتها: سلطة بدون سيادة، بدون حدود، وبدون تواصل جغرافي، بدون إمكانية إقتصادية أو ثقافة ديمقراطية”!! ويعلق الكاتب انه رغم كل هذا الكلام الحاد، فإن “المسؤولين الإسرائيليين يدركون تماماً أن الإعتراف بالدولانية الفلسطينية “ضمن حدود 1967″ تؤكد عدم الإستعداد المتزايد في المجموعة الدولية للإنتظار حتى تتوصل إسرائيل والفلسطينيون الى صفقة سلام”.(29)
ومن جهة أخرى، وفي تعبير أصدق لحقيقة رد الفعل الإسرائيلي، ينقل مراسل وكالة “رويترز” البريطانية في القدس دان ويليامز في 7/12/2010 عن الناطق باسم الخارجية الإسرائيلية، ييغال بالمور، تعليقه على اعترافات عدد من دول أميركا اللاتينية بدولة فلسطين معتبراً إياها “تدخلاً مضراً جداً” من قبل دول لم تكن قط طرفاً في عملية السلام في الشرق الأوسط: “لم يقدموا أي إسهام فيها… والآن يتخذون قراراً متناقضاً بالكامل مع كل شيء تم الإتفاق عليه حتى الآن… وهذا أمر غير معقول”. وتحدث بالمور عن الإنقسام الفلسطيني بين الضفة الغربية وقطاع غزة، فتساءل في لهجة ساخرة: “أية دولة فلسطينية يعترف بها البرازيليون والأرجنتينيون؟ هذا ليس واضحاً حتى للفلسطينيين أنفسهم”! أما داني أيالون، نائب وزير الخارجية الإسرائيلي آنذاك، فنقل عنه مراسل الوكالة بأن هذه المواقف “فقط تشجع الفلسطينيين على مواصلة العناد والأمل بحدوث معجزة تسقط من السماوات أو من المجتمع الدولي، تفرض نوعاً من الإتفاق على إسرائيل”.(30)
ويكتب رون كامبياس بتاريخ 24/3/2011، في تقرير له في صحيفة يهودية تصدر في منطقة سان فرانسيسكو، ان الرئيس الأميركي باراك أوباما قام بجولة في عدد من دول أميركا اللاتينية شملت البرازيل وتشيلي والسلفادور، وذلك بعد اعترافات ثمانٍ من دول المنطقة بدولة فلسطين وتزايد نفوذ إيران في القارة، على حد تعبيره، في حين قام رئيس تشيلي سيباستيان بينييرا بزيارة خلال الشهر ذاته الى إسرائيل. وينقل الكاتب عن مسؤولين في وزارة الخارجية الإسرائيلية وعن مجموعات يهودية أميركية ان الإهتمام الغربي بأميركا اللاتينية كان ينبغي أن يحدث قبل ذلك. وينقل عن مسؤولة في إحدى المنظمات اليهودية الأميركية ان “أميركا اللاتينية عانت من إهمال محدود من قبل الولايات المتحدة وإسرائيل”. وأشارت المسؤولة الى ان الإعتراف من قبل تشيلي بفلسطين كان باهتاً، وأن ذلك جاء نتيجة جهود يهودية مع المسؤولين هناك. وأضافت في حديثها عن بيان الإعتراف الصادر عن تشيلي: “تكلموا عن حق إسرائيل في الوجود ضمن حدود آمنة، وقالوا أن المفاوضات ينبغي أن تستمر وأن أي اتفاق ينبغي أن يكون جزءً من مفاوضات ثنائية… وفي النهاية، فإن الإسرائيليين كانوا أكثر سروراً بالإعلان من الفلسطينيين”.
ونقل تقرير كامبياس عن مراقبين يهود بأن أوباما خلال لقائه مع رئيسة البرازيل ديلما روسيف سعى الى استيضاح حقيقة وجود فروقات بين موقفها وموقف سلفها ومسؤولها السابق لولا دا سيلفا، الذي بدأ حملة الإعترافات الأخيرة بدولة فلسطين، وذلك نظراً لأهمية وتأثير مواقف البرازيل على عموم القارة. ويشير التقرير الى جولات مسؤولين يهود أميركيين في القارة اللاتينية، متحدثاً عن دور الجاليات العربية في القارة، حيث الجالية الفلسطينية الأكبر خارج الشرق الأوسط في تشيلي، والجالية اللبنانية في البرازيل التي يعتبر تعدادها أكبر من تعداد سكان لبنان، على حد تعبيره. وتقول المسؤولة اليهودية الأميركية انه رغم الخطر الكبير الذي يشكله حضور إيران في القارة، لكن يبدو انه بسبب ما قاله (الرئيس الأميركي السابق جورج) بوش لتبرير غزو العراق، فإن سكان أميركا اللانينية “لا يعتقدون حقيقةً أن إيران خطر… وينبغي أن ننتبه ولا نضخّم المسألة”، وفق ما نقله كامبياس.(31)
وكان الرئيس البرازيلي لويس إيناسيو لولا دا سيلفا قد قام بزيارة لكل من إسرائيل وفلسطين والأردن بين 14 و18/3/2010، وهي أول زيارة لرئيس برازيلي لهذه المنطقة، ولم تسبقها على هذا المستوى لمسؤول برازيلي سوى زيارة الإمبراطور بيدرو الثاني في العام 1876، وفق مقالة غونتر مايهولت، نائب مدير المؤسسة الألمانية للشؤون الدولية والأمن “شتيفتونغ فيسينشافت أونت بوليتيك” في برلين (32). ويشير الكاتب الألماني الى ان نشاط وزير الخارجية البرازيلي سيلسو أموريم على الصعيد الدولي لا يخفي الدور المؤثر في هذا المجال لمستشار الرئيس ماركو أوريليو غارسيا. ويضيف الكاتب ان الرئيس البرازيلي لولا داسيلفا تحدث عن حلمه الشخصي برؤية “شرقٍ أوسط خالٍ من الأسلحة النووية كما هو الحال في منطقتنا العزيزة أميركا اللاتينية”. كما أشار مراراً، حسب الكاتب، الى انه في البرازيل “هناك 120000 يهودي يعيشون بتناغم كامل مع 10 ملايين عربي”، وهو نموذج تمنى انعكاسه في الشرق الأوسط. ويضيف الكاتب انه، أثناء زيارة لولا داسيلفا لإسرائيل، أعلن افيغدور ليبرمان، وزير خارجيتها، مقاطعته للقاءات معه بسبب عدم رغبة الرئيس البرازيلي في زيارة قبر تيودور هيرتسل (مؤسس الحركة الصهيونية السياسية المعاصرة)، بينما قام بوضع إكليل من الورد على ضريح ياسر عرفات، وافتتح شارع البرازيل في رام الله. كما تلقى لولا داسيلفا انتقادات في الكنيست من رئيسه رؤوفين ريفلن ومن رئيس الحكومة نيتينياهو وزعيمة المعارضة تسيبي ليفني لدعمه لإيران، وفق المقالة.(33)
وتحدث خبير مركز ويلسون، إدوارد كوفمان، في حلقة نقاش عقدت في أواخر العام 2011 عن تطور مواقف المجتمعات اليهودية والعربية في أميركا اللاتينية تجاه الصراع الفلسطيني- الإسرائيلي، فقال ان التجمعات اليهودية التي كانت صهيونية بنسبة كبيرة في الماضي لم تعد كذلك، وباتت الولايات المتحدة مصدر جذب لها أكثر من إسرائيل، بالرغم من نسبة البطالة الأدنى كثيراً والفرص الأكبر “للإستيعاب في المجتمع” في إسرائيل، على حد تعبيره. وتناول كوفمان الدور الإيراني في أميركا اللاتينية بشأن الصراع الإسرائيلي- الفلسطيني، فقال:”بينما من الخطأ الإفتراض أن الدول الأميركية اللاتينية تعترف بالدولة الفلسطينية بسبب إيران، فإن لإيران دوراً في دفع هذه الدول لقطع علاقاتها مع إسرائيل”، مشيراً الى زيارات الرئيس الإيراني أحمدي نجاد، آنذاك، الى كل من فنزويلا ونيكاراغوا وبوليفيا كأمثلة.(34)
ويكتب الكولومبي نزيه ريشاني بتاريخ 18/7/2011 ان إسرائيل تضغط على الحكومة الكولومبية للرئيس خوان مانويل سانتوس لعدم الإعتراف بالدولة الفلسطينية، وان هذا كان الهدف الرئيسي للقاء وزير البنى التحتية الإسرائيلي، عوزي لانداو، مع سانتوس قبل أيام من كتابة المقالة. ويذكّر الكاتب بعلاقات سانتوس الوثيقة مع إسرائيل عندما كان وزيراً للدفاع في إدارة الرئيس السابق ألفارو أوريبي (2002-2010)، وان هذه العلاقة هي التي أدت الى شراء الأسلحة وخدمات شركات الأمن الخاصة والخدمات الإستخباراتية. ويذكّر الكاتب بأن “البصمات الإسرائيلية كانت واضحة في الصراع الكولومبي سنوات عدة قبل سانتوس. فمنذ العام 1980، قام الضابط المتقاعد والمرتزقة- على حد تعبيره- يائير كلاين بتدريب فرق الموت اليمينية لتاجري المخدرات بابلو إسكوبار وغونسالو رودريغيس غاتشا. وكان كل من كارلوس كاستانيو وسلفاتوري مانكوسو من بين قادة قوات الدفاع الذاتي الموحدة لكولومبيا المعروفة بالأحرف الأولى “إيه يو سي”، وهي مجموعة يمينية عسكرية غير نظامية تلقت التدريب العسكري في إسرائيل.” ويضيف المقال: “قام سانتوس فقط بتقوية العلاقة ورفعها الى مستوى الدولة. والآن مع سانتوس كرئيس، تحاول الحكومة الإسرائيلية أن تستثمر أفعالها من خلال دفع كولومبيا للتصويت بـ”لا” في أيلول/سبتمبر القادم”(35) (يقصد في العام 20111 عندما كان مطروحاً عرض مسألة الإعتراف بدولة فلسطين على حدود العام 1967 على هيئات الأمم المتحدة، ولكن الهدف تحقق في تصويت نهاية العام 20122).
العلاقات العسكرية: بصمات إسرائيلية في العديد من دول القارة
وهكذا لا ينفصل الدور السياسي والدبلوماسي الإسرائيلي في أميركا اللاتينية والكاريبي عن الدور العسكري والأمني في العديد من دول المنطقة، وخاصة منذ أواخر الستينيات ومطلع السبعينيات، مع تنامي الصناعات العسكرية الإسرائيلية منذ تلك الفترة. وشهدت تلك الحقبة أيضاً طغيان الأنظمة العسكرية والإستبدادية في القارة في مناخ “الحرب الباردة” وخشية واشنطن من تكرار النموذج الكوبي في بلدان أخرى من القارة اللاتينية. وهذه الأنظمة الإستبدادية وجدت في إسرائيل مصدر دعم عسكري وأمني ثميناً لها، وبشكل خاص عندما تضطر الإدارة الأميركية، بفعل الضغوط السياسية والمعنوية الداخلية والخارجية، الى مراجعة دعمها العسكري والأمني لبعض هذه الأنظمة، الموصومة بتجاوزات فظة ودموية لحقوق الإنسان.
وهو ما كان عليه الحال، على سبيل المثال، في مطلع ولاية الرئيس الأميركي الأسبق جيمي كارتر في العام 1977 عندما أعلن وقف المساعدات الأميركية عن الدول التي تنتهك حقوق الإنسان في المنطقة، مثل غواتيمالا. وجدير بالذكر أن الولايات المتحدة كانت تحتكر تقريباً تصدير السلاح لأميركا اللاتينية والكاريبي حتى أواسط الستينيات الماضية، لكن المنطقة انفتحت لاحقاً على التسليح من دول أوروبية وغير أوروبية. علماً بأن كوبا المحاصرة اعتمدت، بطبيعة الحال، على سلاح الإتحاد السوفييتي ودول أوروبا الشرقية الحليفة له. وسياسة كارتر بشأن حقوق الإنسان هذه سرعان ما دفعت إسرائيل للعمل على الحلول محل الولايات المتحدة في دعم هذه الأنظمة بتوفير السلاح والخبرات القمعية والأمنية لها، لأسباب إقتصادية وجيوسياسية في آن واحد.
وبالرغم من أن خليفة كارتر في سدة الرئاسة الأميركية رونالد ريغن سارع بعد توليه الرئاسة في العام 1981 الى اتباع سياسة معاكسة لسياسة كارتر في القارة اللاتينية وغيرها من المناطق، إلا انه واجه في بعض الحالات عقبات من الكونغرس الأميركي، الذي أصدر، على سبيل المثال، قراراً بوقف تسليح مجموعات “كونتراس” المناهضة للنظام اليساري (السانديني) في نيكاراغوا، الذي كان قد أطاح بنظام سوموسا (تكتب أحياناً سوموزا) الإقطاعي الإستبدادي في تموز/يوليو 1979. ومعروف ان ريغن وإدارته قاما بالإلتفاف على قرار الكونغرس عبر بيع سلاح وقطع غيار أميركية لإيران بواسطة إسرائيل ابان الحرب العراقية – الإيرانية في الثمانينيات الماضية مقابل أموال يتم ضخها من ثمن هذه الأسلحة لمجموعات “كونتراس” لتواصل عمليات التخريب والإستنزاف للنظام السانديني في نيكاراغوا. وهي العملية التي تم كشفها في أواخر العام 1986 في مجلة أسبوعية لبنانية، لتنفجر بعد ذلك في الولايات المتحدة الفضيحة التي اشتهرت باسم “إيران- كونتراغيت”. علماً بأن إسرائيل كان لها دور أيضاً في تدريب عصابات “كونتراس”، المتشكلة بالأساس من فلول نظام سوموسا المهزوم في نيكاراغوا، وهو النظام الذي بقي يلقى دعماً عسكرياً وأمنياً واسعاً من إسرائيل حتى اللحظة الأخيرة قبل سقوطه بأيدي الثوار الساندينيين. وهو ما كان دعا الساندينيين، فوراً بعد انتصارهم، الى تجميد العلاقات مع إسرائيل، ولاحقاً قطعها، وافتتاح مكتب تمثيلي لمنظمة التحرير الفلسطينية في العاصمة ماناغوا، كما سبق وذكرنا.(36)
وجدير بالذكر ان الدعم الإسرائيلي العسكري والأمني لأي نظام في أميركا اللاتينية من هذه الأنظمة الديكتاتورية والقمعية كان يسنده دعم اللوبي الموالي لإسرائيل في واشنطن لمصالح هذه الأنظمة مع الإدارات الأميركية، وفق ما أورده كتاب بشارة بحبح وليندا بتلر حول العلاقات العسكرية لإسرائيل مع أميركا اللاتينية. ويضيف الكاتبان أن ميزة التعاون العسكري لهذه الأنظمة مع إسرائيل تكمن في عدم ربط هذا التعاون بأية شروط سياسية من قبل إسرائيل على الأطراف المشترية. وينقل الكاتبان عن الوزير الإسرائيلي الأسبق رحبعام زئيفي تصريحاً بهذا المعنى في العام 1977 يقول فيه ان إسرائيل لا تتدخل في الشؤون الداخلية لبلدان القارة.(37) وكأن دعم النظام الإستبدادي ضد القوى المتمردة عليه ليس تدخلاً في الشؤون الداخلية للبلد وانحيازاً لطرف على حساب الآخر، الذي هو في معظم الحالات غالبية الشعب المعني.
في مراجعة للأستاذة الجامعية الأميركية دونا لي بوين لكتاب بشارة بحبح وليندا بتلر في مجلة مختصة بشؤون الشرق الأوسط، أوردت التالي: “من خلال التدقيق في سياسة إسرائيل في أميركا اللاتينية، يستنتج بحبح أن السياسة الإسرائيلية تعارضت أحياناً مع الأهداف الأميركية، بينما في حالات أخرى عملت إسرائيل مع الولايات المتحدة بشكل منسّق. عندما بدأت علاقاتها التجارية مع أميركا اللاتينية في الخمسينيات، تبادلت إسرائيل السلاح بالدعم الدبلوماسي. وعندما امتنعت الولايات المتحدة عن توفير السلاح لبعض الحكومات الأميركية اللاتينية لأسباب سياسية، دخلت إسرائيل لملء الفراغ. في نيكاراغوا، كانت إسرائيل مستعدة في البدء للعمل مع الولايات المتحدة لتموين سوموسا (سوموزا)، ثم واصلت البيع لحكومة سوموسا بعد أن توقفت الولايات المتحدة عن توفير الأسلحة لها. وبعد سقوط سوموسا، عملت إسرائيل مجدداً بالتناغم مع الولايات المتحدة لتوفير الأسلحة للـ”كونتراس” المعادين للساندينيين، ثم واصلت بيع الأسلحة لهم بعد أن قيدت السياسات الداخلية الأميركية حرية حركة الحكومة الأميركية”.(38)
ويتحدث جيريمي بيغوود عن دعم إسرائيل العسكري والأمني لعدد من أنظمة أميركا اللاتينية الإستبدادية، فيشير الى ان الإسرائيليين دعموا “الطغمة العسكرية في الأرجنتين في أواخر السبعينيات وأوائل الثمانينيات، وهي طغمة معادية للسامية قامت خلال حكمها بـ”حرب قذرة” أخرى اعتمدت على فرق الموت وعلى خطف و”تغييب” الناشطين في البلد”.(39)
وفي حديث بيغوود عن نيكاراغوا يقول: “وفي 1978، كان ديكتاتور نيكاراغوا سوموسا يقف وقفته الأخيرة ضد انتفاضة عامة للشعب الذي كان الساندينيون يقودونه، والذي سئم من حكم عائلة سوموسا التي احتكرت حكم البلد طوال نصف قرن. وكان الإسرائيليون والأميركيون يوفرون الأسلحة لسوموسا منذ عدة سنوات. ولكن عندما أتى الرئيس جيمي كارتر الى سدة الرئاسة في العام 1977 أمر بوقف كل مساعدة عسكرية أميركية لنيكاراغوا. وعلى الفور، قام الإسرائيليون بملء الفراغ من خلال زيادة كمية الأسلحة لسوموسا الى أن هرب من البلد عندما استولى الساندينيون على السلطة. فقام العاملون الإسرائيليون بعد ذلك بمساعدة عصابات “كونتراس” اليمينية التي تحارب الحكومة الساندينية انطلاقاً من قواعد لها في هوندوراس وكوستاريكا، حسب تقارير استخباراتية للشرطة الكولومبية تم الحصول عليها.”(40)
وكما إن الدعم الدبلوماسي من قبل دول أميركا اللاتينية كان مهماً للحركة الصهيونية في العام 1947 ولإسرائيل في سنواتها الأولى في ظل رفض العديد من الدول العربية والإسلامية والآسيوية، وحتى بعض دول أوروبا الجنوبية، للإعتراف بها وإقامة علاقات معها (حيث كانت الكتلة الأميركية اللاتينية في الخمسينيات والستينيات الكتلة الأكثر دعماً لإسرائيل قبل الكتلة الغربية وإفريقيا السوداء، حسب كتاب بحبح وبتلر)، فالعلاقات العسكرية أصبحت ذات أهمية خاصة لإسرائيل. وهذه الأهمية تعود، من جهة، للرغبة الإسرائيلية في تعزيز هذا الدعم الدبلوماسي الأميركي اللاتيني، من جهة، حتى وإن كان دعماً متأتياً من الأنظمة العسكرية والديكتاتورية التي عادت وانتشرت بقوة في أنحاء القارة مجدداً منذ أواسط الستينيات، خاصة بعد الإنقلاب على الرئيس المنتخب في البرازيل جواو غولارت في العام 1964، ومن جهة أخرى، للرغبة الإسرائيلية في تعزيز موارد إسرائيل من العملة الصعبة، بعد أن أصبح تصدير السلاح المصنّع في إسرائيل مصدراً مهماً لخزينتها.
وكانت إسرائيل تعتمد في الخمسينيات ومعظم الستينيات على السلاح الثقيل والمتطور الذي كانت تحصل عليه من فرنسا. لكن هذا المصدر توقف بعد قرار الرئيس الفرنسي آنذاك، الجنرال شارل ديغول، حظر تصدير السلاح لدول المنطقة ووقف التعاون العسكري والأمني مع إسرائيل إثر مبادرتها لشن الحرب ضد الدول العربية في حزيران/يونيو 1967. وهو ما دفع حكام إسرائيل لمزيد من الإعتماد على السلاح الأميركي، من جهة، ولتطوير الصناعات العسكرية الإسرائيلية، من جهة أخرى، لمحاولة تلبية معظم حاجات قواتها دون خطر تكرار تجربة الحظر الفرنسي. وهكذا تطورت صناعات السلاح الإسرائيلية منذ الستينيات والسبعينيات، بعد أن كانت قد بدأت بشكل محدود حتى قبل قيام إسرائيل. وبذلك، تحوّلت إسرائيل الى أحد المصدّرين الرئيسيين للسلاح في العالم، وما زالت الى الآن.
وكانت أميركا اللاتينية أحد أسواقها الرئيسية في تلك المرحلة، حيث كانت هذه المنطقة الجغرافية تستوعب في السبعينيات أكثر من 50 بالمئة من صادرات إسرائيل العسكرية، وفق كتاب بشارة بحبح وليندا بتلر. وينقل الكتاب المذكور عن “مؤسسة ستوكهولم لأبحاث السلام العالمي” (سيبري، بالأحرف الأولى الإنكليزية) ان ثلث صادرات إسرائيل من السلاح في العام 1980 ذهبت الى دولتين في أميركا اللاتينية، هما الأرجنتين والسلفادور.(41) وكلا البلدين كانا آنذاك محكومين من قبل نظامين عسكريين واستبداديين دمويين.
ويذكر الكتاب ان نسبة ثلث الى نصف مبيعات إسرائيل من السلاح كانت تذهب في أواسط الثمانينيات الى أميركا اللاتينية، وان 18 دولة على الأقل من دول أميركا اللاتينية والكاريبي كانت حتى أواسط الثمانينيات قد استوردت أسلحة من إسرائيل، أي عملياً كل دول تلك المنطقة ما عدا غويانا وسورينام وغويان الفرنسية وأوروغواي، حسب بحبح، حيث شملت الصفقات طائرات كفير وعرافا (وطائرة عرافا الإسرائيلية الصنع كانت تستخدم، بشكل رئيسي، في تعقب ومطاردة القوى المتمردة في القارة). وشهدت المنطقة اللاتينية في تلك الفترة سيلاً من زيارات الوفود الإسرائيلية وكبار المسؤولين، معظمها بهدف تسويق السلاح. وفي واقع الحال، وبالرغم من وجود خلافات على الحدود والأراضي بين عدد من دول أميركا اللاتينية، فإن السلاح المشترى استُخدم بدرجة أساسية لقمع حركات التمرد ومواجهة مشكلات الأمن الداخلي في معظم هذه البلدان.
ويكتب جيريمي بيغوود: “منذ قيام إسرائيل، شمل التدريب والتسليح والمشورة الإسرائيلية كلاً من الأرجنتين وبوليفيا والبرازيل وكولومبيا وكوستاريكا وجمهورية الدومينيكان والإكوادور والسلفادور وغواتيمالا وهاييتي وهوندوراس ونيكاراغوا وبنما وباراغواي وبيرو وفنزويلا. ولكن الأمر لم يقتصر على بيع الطائرات والبنادق وأنظمة السلاح الإسرائيلية، بل تعداه الى دور إستشاري وتدريبي والى إدارة عمليات الإستخبارات ومحاربة الثوار في “الحروب القذرة” الداخلية في الأرجنتين والسلفادور وغواتيمالا ونيكاراغوا، وحالياً كولومبيا”.(42)
كولومبيا: دور إسرائيلي عسكري وأمني واسع، يتكامل مع الدور الأميركي
وبالفعل، إذا كانت الحروب الداخلية منتشرة في الماضي في العديد من دول أميركا اللاتينية، فإن الحرب الداخلية الأساسية المستمرة حتى الآن هي في كولومبيا، إحدى دول أميركا الجنوبية الرئيسية، التي تكاد تكون المعقل الأخير لليمين الإستبدادي المرتبط بالولايات المتحدة في جنوب القارة الأميركية، حيث للقوات الأميركية عدة قواعد في البلد، تحت يافطة محاربة زراعة وتجارة المخدرات.
ويورد الكولومبي (من أصل عربي، كما يشير اسمه) نزيه ريشاني في مقاله المنشور بتاريخ 18/7/2011 في “كواديرنوس كولومبيانوس”، أي الدفاتر الكولومبية، وهو المقال الذي نقله الى الإنكليزية موقع “مجلس أميركا الشمالية من أجل أميركا اللاتينية- المعروف بالأحرف الأولى لاسمه بالإنكليزية- ناكلا”، فقرات من رسالة سرية أميركية كشفها موقع “ويكيليكس” حول العلاقات العسكرية الكولومبية مع إسرائيل. والرسالة تعود الى 11/7/2008 ويقول فيها الدبلوماسي الأميركي الذي كتبها انه، خلال الثمانينيات والتسعينيات الماضية، كان هناك بعض المرتزقة الإسرائيليين يساعدون في تدريب القوات غير النظامية في كولومبيا. ومؤخراً، تضيف الرسالة، “قامت حكومة كولومبيا بالتعاقد مع عسكريين إسرائيليين سابقين للمساعدة في تأمين التدريب والمشورة في القتال ضد “فارك” (المقصود تنظيم “القوات المسلحة الثورية لكولومبيا” المعروف بهذه الأحرف الأولى لاسمه بالإسبانية) ومجموعات إرهابية أخرى”.(43)
وتقول الرسالة: “ان عنصر اتصال في وزارة الدفاع الكولومبية أبلغنا بأن هذه العلاقة الجديدة تعود الى كانون الأول/ديسمبر 2006. وخلال العامين الماضيين، قام مسؤولون في السفارة (الأميركية) بزيارة وزارة الدفاع والقوات الكولومبية ولاحظوا حضوراً متزيداً للمستشارين الإسرائيليين”. وتضيف الرسالة: “ان المتعاقدين الإسرائيليين يدعمون حكومة كولومبيا من خلال مبيعات الأسلحة والتدريب العسكري وتوفير التخطيط الإستراتيجي العسكري وخدمات إستشارية. كما قامت الحكومة الكولومبية بتشغيل متعاقدين إسرائيليين لتدريب القوات الخاصة الكولومبية، وخاصة تلك المتعلقة بـ”الأهداف عالية القيمة”. حيث انه في العامين 2005 و2006 كان هناك إحباط ملموس في صفوف القيادات العسكرية الكولومبية العليا نظراً لمعدل النجاح المتدني في قتل أو اعتقال “الأهداف عالية القيمة”. ولذا، قامت حكومة كولومبيا نتيجة لذلك بالتعاقد مع ضباط متقاعدين أو عاملين من قوات الدفاع الإسرائيلية لديهم خلفيات متعلقة بالعمليات الخاصة والإستخبارات للمساعدة في هذا الصدد”.(44) والمقصود بـ”الأهداف عالية القيمة” هو، طبعاً، قيادات “فارك” والمعارضة الكولومبية بشكل عام. ومعروف كم هي “غنية” تجربة إسرائيل في مجال النيل من “الأهداف عالية القيمة” في الأراضي الفلسطينية كما في لبنان وغيره من بلدان المحيط العربي والإقليمي.
وفي مقاله المعنون “بصمات الإرهاب الإسرائيلي في أميركا اللاتينية” والمنشور عام 2003، يورد جيريمي بيغوود كلاماً على لسان كارلوس كاستاو، أحد أهم قادة “فرق الموت”، القوات غير النظامية، الكولومبية، وهي الفرق الأكبر من حيث الحجم في تاريخ أميركا اللاتينية، انه تعلّم فنون القتال في إسرائيل منذ كان في الثامنة عشرة من عمره في الثمانينيات الماضية. وينقل عنه الكلام التالي: “تعلمت كمية لا حدود لها من الأشياء في إسرائيل، وأنا أدين جزءً من جوهري وإنجازاتي البشرية والعسكرية لذلك البلد.”(45)
وكاستاو، الذي كان تاجراً للمخدرات خضع للمحاكمة وتمت إدانته، يفاخر، في كتاب مذكرات له صدر بالإسبانية بعنوان “مي كونفسين”، بأنه نقل “مفهوم القوات غير النظامية من الإسرائيليين”. وهذه القوات، التي تشكلت بالأساس من القتلة المأجورين بهدف حماية عمليات نقل وتسويق المخدرات وحماية كبار ملاكي الأراضي في البلد، تم تنظيمها من قبل كاستاو كقوة متماسكة في العام 1997. وهي، من حيث المبدأ، خارج القانون، ولكنها تنسّق في العديد من الحالات أعمالها مع الجيش الكولومبي. ووفق تقرير استخباراتي صدر عن الشرطة السرية الكولومبية في العام 1989، فإن المدربين الإسرائيليين، الذين دربوا كاستاو في العام 1983، جاءوا الى كولومبيا في العام 1987 لتدريبه وتدريب أفراد آخرين في القوات غير النظامية التي شكّلت لاحقاً التشكيلة المتماسكة التي أصبح يقودها. وتم بعد ذلك إرسال خمسين من “أفضل” الطلاب للتدريب في إسرائيل، وفق تقرير إستخباراتي للشرطة الكولومبية، وتم استكمال القوة غير النظامية التي أصبحت الأكبر في القارة، وبلغ تعداد أفرادها تحت السلاح بين 10 آلاف و12 ألف عنصر. وتم توفير الأسلحة لهم من قبل تجار سلاح إسرائيليين، كان العديد منهم مقيماً منذ زمن في بنما المجاورة، وكذلك بأعداد أكبر في غواتيمالا. وفي العام 2002، تمكنت شركة إسرائيلية مرتبطة بـ”قوات الدفاع الإسرائيلية” ومركزها في غواتيمالا من شراء 3000 رشاش كالاشنيكوف وزهاء المليونين ونصف المليون من الذخائر.(46)
وكتب موريس لوموان في شهرية “لوموند دبلوماتيك” الفرنسية، التي تُترجم شهرياً الى زهاء ثلاثين لغة من لغات العالم، من بينها العربية، “ان الضابط المتقاعد في الجيش الإسرائيلي يائير كلاين، الذي درّب في العام 1988 “عسكريي المخدرات غير النظاميين”، أعلن مؤخراً (في أواخر العام 2010) أن أعماله تلك كانت تحظى بموافقة الحكومتين الإسرائيلية والكولومبية”. ونقل الكاتب عن الرئيس الكولومبي الحالي سانتوس تصريحاً في العام 2008، عندما كان وزيراً للدفاع، وزعته محطة “بي بي سي” باللغة الإسبانية في 5/7/2008، جاء فيه: “إن الإرهاب تتم مقاتلته بشكل خاص وقبل كل شيء من خلال المعلومات الإستخبارية، وفي هذا المجال، فإن إسرائيل تستطيع مساعدتنا وتقديم الكثير”.(47)
وحسب أسبوعية “سيمانا” الكولومبية، فإن “مجموعة من المسؤولين العسكريين الإسرائيليين السابقين تساعد الضباط الكبار في الجيش بقضايا استخباراتية”. وتشير الأسبوعية الى أن وزير الخارجية الإسرائيلي الأسبق شلومو بن عامي قام بترتيب الإتصال بين سانتوس والإسرائيليين المعنيين في العام السابق، أي 2006. والمفارقة الساخرة، وفق الخبر، تكمن في كون الرجلين التقيا في اجتماع لمركز طليطلة (توليدو) للسلام في إسبانيا. وتم توقيع العقد بين المستشارين الإسرائيليين ووزارة الدفاع الكولومبية في نيسان/أبريل 20077، وبعض المصادر تقدّر قيمته بحوالي عشرة ملايين دولار. والمجموعة الإسرائيلية، التي تضم ثلاثة ضباط كبار برتبة لواء وآخرين غيرهم، تلقى تقديراً عالياً من قبل الكولومبيين. أحد كبار الضباط الكولومبيين وصفهم بأنهم “الأفضل في العالم”. وتصف أسبوعية “سيمانا” المعاونين الإسرائيليين بأنهم “مرتزقة”، مع انها أكدت ان الحكومة الإسرائيلية على علم بأعمالهم. وقد نفى سانتوس إدعاءات من عناصر “فارك” بأن هناك كوماندوس إسرائيليين، الى جانب قوات أميركية وبريطانية، تشارك فعلاً في القتال في أدغال وجبال كولومبيا. وتضيف الصحيفة: ان إسرائيل أصبحت المورد الأول للسلاح لكولومبيا، وتوفر لها الطائرات بدون طيار، كما الأسلحة الخفيفة والذخائر، والمراقبة وأنظمة الإتصالات، وحتى قنابل خاصة بامكانها أن تدمر حقول الكوكا. “إن أساليب إسرائيل في محاربة الإرهاب يتم نسخها في كولومبيا”، كما يقول مسؤول كبير في وزارة الدفاع، وفق ما أورده موقع صحيفة “يديعوت أحرونوت” على الإنترنت “واي نت”، في 10/8/ 2007، كما نقل موقع “وورلد وور فور ريبورت”، بتاريخ 17/8/2007.(48)
ونقل موقع “وورلد وور فور” نفسه عن تقارير الخارجية الأميركية التي كشفها موقع “ويكيليكس” ان الشركة “الأمنية” الإسرائيلية المعروفة باسم “سي إس تي”، والتي يقودها الميجر جنرال يسرائيل زيف، المسؤول السابق عن عمليات الجيش الإسرائيلي، توغلت في أميركا اللاتينية الى حد اعتبره دبلوماسيون أميركيون تهديداً أمنياً، وتحركوا للحد من توسع هذه الشركة. وقد وجدت جهود هؤلاء الدبلوماسيين دفعاً غير متوقع عندما تم الإمساك بمترجم للشركة الإسرائيلية كان يسعى بشكل واضح لتمرير وثائق سرية لوزارة الدفاع الكولومبية الى قوات المعارضة المسلحة اليسارية، حسب إحدى الرسائل الدبلوماسية التي استشهدت بها صحف مجموعة “ماكلاتشي” الأميركية. ويضيف الموقع، تحت عنوان “الجواسيس الأسرائيليون يلعبون ورقتي الطرفين؟”، بأن حكومة كولومبيا كانت في العام 2006 الأولى في أميركا اللاتينية التي توقع عقداً مع شركة “غلوبال سي إس تي”، وهو العام ذاته الذي تقاعد فيه مؤسس الشركة زيف كرئيس لإدارة عمليات “قوات الدفاع الإسرائيلية”. وزيف هذا كان من بين المعارف الشخصية لوزير الدفاع الكولومبي في ذلك الحين، خوان مانويل سانتوس، كما تقول الرسالة السرية. وسانتوس هو الآن، كما ذكرنا، رئيس كولومبيا. ويواصل التقرير ان شركة زيف وعدت بإجراء “تقييم إستراتيجي” يمكّن من وضع خطة لهزيمة “المنظمات الإرهابية والإجرامية مع حلول العام 2010″، كما جاء في إحدى الرسائل الدبلوماسية الأميركية السرية. وتم إطلاق تسمية “القفزة الإستراتيجية” على هذا التصور. (499)
“قام زيف خلال ثلاث سنوات بشق طريق نيل ثقة وزير الدفاع السابق سانتوس من خلال تقديم عرض بصيغة أدنى ثمناً من مساعدة الحكومة الأميركية وبدون ربطها بأية إشتراطات”، كما جاء في الرسالة. وذكرت رسالة دبلوماسية أميركية سرية أخرى أن عدداً من الضباط الإسرائيليين العاملين والمتقاعدين “مع خلفيات لها علاقة بالعمليات الخاصة وبالإستخبارات العسكرية” جاءوا الى كولومبيا في إطار هذه العملية. وأضافت الرسالة انه في العام 2007 أصبح 38 بالمئة من مشتريات الدفاع الخارجية لكولومبيا تأتي من إسرائيل.
وتروي إحدى الرسائل الدبلوماسية الداخلية الأميركية ان مصادر في الشرطة الوطنية الكولومبية أبلغت دبلوماسياً أميركياً في شباط/فبراير 2008 “بأن مترجماً في شركة “غلوبال سي إس تي”، وهو المواطن الإسرائيلي المولود في الأرجنتين شاي كيلمان، قام بنسخ وثائق سرية من وزارة الدفاع الكولومبية في محاولة فاشلة لبيعها الى القوات المسلحة الثورية لكولومبيا “فارك” من خلال وسطاء في الإكوادور والأرجنتين”. والوثائق المنسوخة تتضمن، على ما يبدو، معلومات حول كبار أباطرة المخدرات كانوا مستهدفين من الحكومة الكولومبية. وتضيف الرسالة: “زيف نفى هذه المحاولة، وأعاد كيلمان الى إسرائيل”. وتقول الرسالة الأميركية السرية ان مقترحات زيف المقدمة لكولومبيا “تبدو مصممة لدعم مبيعات التجهيزات والخدمات الإسرائيلية أكثر من تلبية إحتياجات البلد الداخلية”. وتضيف ان الحكومة الكولومبية أدركت ان “صفقاتهم ليست جيدة بمقدار ما تم الترويج لها.”
وقبل أن تسوء النظرة الى “غلوبال سي إس تي” في كولومبيا، كان زيف قد رتّب صفقة مماثلة مع بيرو. وقد تفاخر زيف أمام السلطات في بيرو بأن “غلوبال سي إس تي” لعبت دوراً إستشارياً في غارة مثيرة على أحد معسكرات “فارك” في كولومبيا أدت الى تحرير المرشحة السابقة للإنتخابات الرئاسية إنغريد بيتانكور وثلاثة متعاقدين عسكريين أميركيين و11 عنصراً من الجيش والشرطة الكولومبيين. وهو ما تنفيه كولومبيا. ورغم ذلك، فقد وقّعت الشركة الإسرائيلية عقداً لسنة واحدة بقيمة 9 ملايين دولار لمساعدة بيرو لقهر تمرد “الطريق المضيء” الماوي “مرة والى الأبد”.
ويشير تقرير أعده بيل واينبيرغ في موقع “وورلد وور فور” الى أن صحيفة “نيويورك تايمز” ألمحت، في عدد يوم 3/7/2008، الى دور لإسرائيل في إخراج إنغريد بيتانكور، المرشحة السابقة للإنتخابات الرئاسية في كولومبيا، و14 محتجزاً آخر لدى “فارك” في كولومبيا. وينقل التقرير عن موقع “واي نت” الإسرائيلي ان الدور الإسرائيلي في العملية قد يكون أكبر: ففي العام السابق، جاءت مجموعة من المستشارين العسكريين الإسرائيليين في كولومبيا، بعد حصولهم على موافقة من وزارة الدفاع الإسرائيلية، بهدف مساعدة الجيش هناك، وخاصة الوحدات الخاصة. ويضيف الموقع: تركّز الدور الإستشاري الإسرائيلي بالأساس على قضايا الإستخبارات والعمليات الخاصة والتكامل والتنسيق بين مختلف العناصر الأمنية. وذلك كان بهدف تحضيرهم لحملة منسّقة ومنتجة خلال فترة زمنية قصيرة. وكان يرأس المجموعة الميجر جنرال إحتياط يسرائيل زيف، الذي خدم كرئيس للعمليات في وحدة النخبة “ساييريت ماتكال” حتى ما قبل أربع سنوات. وكان زيف وعلى الأقل بعض رجاله قد عادوا الى إسرائيل، ولكن من المحتمل أن المشورة التي أعطاها لقوات الأمن الكولومبية ساعدتهم في تحقيق قائمة نجاحاتهم التي أنجزوها ضد منظمة “فارك” المتمردة.(50)
ويستشهد تقرير واينبيرغ بخبر في صحيفة “تايمز” اللندنية في عدد 4/7/2008 استندت فيه الى وسائل إعلام إسرائيلية يفيد بأن مستشارين وضباطاً عسكريين من جهاز المخابرات الإسرائيلي “موساد”، ساعدوا في التخطيط وفي تنفيذ العملية، وان أحد المستشارين الذين يقال أنهم ساعدوا الكولومبيين هو الضابط المتقاعد في الجيش الإسرائيلي يسرائيل زيف. والسيد زيف، الذي أقام شركته الخاصة بعد تقاعده من الجيش الإسرائيلي في العام 2005 ويقال أنه تلقى مبلغ 10 ملايين دولار، قال: “لدينا علاقة غير مباشرة (مع الكولومبيين). ومساعدتنا ذات وزن كبير، من خلال إعطائنا إياهم معدات متطورة جداً في محاربة الإرهاب. والكولومبيون هم مثلنا في تصميمهم ونفسهم الخلاّق”. ويشير التقرير الى أن هذه المعلومات تنقصها الدقة، ويدعو في النهاية الى الحصول على المزيد من التوضيح حول هذه العلاقة الإسرائيلية.(51)
ويرى بيغوود في مقالته المشار إليها أعلاه ان كولومبيا هي المسرح المتبقي لحروب كبيرة كهذه، ودور إسرائيل فيها مكشوف، ولكنه ليس كله معلن.(52)
هذا، ونشر موقع “برافدا” الروسي ترجمة لمقابلة أجريت مع المحامي الكولومبي الشاب الناشط في مجال حقوق الإنسان، خورخي إليسير مولانو، تحدث فيها عن الإنتهاكات والجرائم التي ترتكبها السلطات في كولومبيا ضد المعارضين والمواطنين، بما في ذلك الأطفال، مقدماً معطيات وأسماء محددة، بما في ذلك حالات من التعذيب حتى الموت. ويخلص الى القول: “إن كولومبيا أصبحت إسرائيل أميركا اللاتينية، ولعبت دوراً مزعزعاً لاستقرار المنطقة”.(53)
ويذكّر الكولومبي نزيه ريشاني ان وزير الدفاع الكولومبي في عهد الرئيس السابق ألفارو أوريبي فيليس (2002-2010)، خوان مانويل سانتوس، “أقام علاقات مريحة مع الإسرائيليين”. وان هذا “التعاون تركز على مجالات الأمن والإستخبارات، مما يشمل، وفقاً لأحد المصادر، وجود مكتب دائم في وزارة الدفاع لمساعدة كولومبيا في حربها ضد الثوار”. ويضيف: ان سانتوس وسّع هذه العلاقة بعد انتصاره في الإنتخابات الرئاسية في 2010 من خلال دعوة شركة الصناعات العسكرية الإسرائيلية للإستثمار ومساعدة كولومبيا للتوسع بأكثر من مجرد تصنيع بنادق “غاليل” الذي يجري في البلد منذ بعض الوقت. والأهم، حسب الكاتب، يسعى البلد الى الحصول على الطائرات بدون طيار، ومعدات عسكرية أخرى ذات تقنيات عالية. وينبغي، بالطبع، أن توافق الولايات المتحدة على هذه الصفقات، وخاصة الطائرات بدون طيار، التي تم طلبها أيضاً من الولايات المتحدة قبل عدة أسابيع. ويشير الكاتب، نقلاً عن وزير الدفاع الكولومبي الحالي خوان كارلوس بينسون، بأن كولومبيا تريد أن تصبح “مصدّراً رئيسياً للأمن” في المنطقة، وتعتقد أن إسرائيل تستطيع أن تساعدها لإنجاز هذه الأهداف. وأضاف الوزير الكولومبي، قبل ايام من نشر المادة: “نحن نريد أن نقيم علاقات إستراتيجية، وأن نتشاطر المعلومات والعقيدة العسكرية… نحن نريد علاقة دائمة تتجاوز مجرد الروابط التجارية البحتة”. وبكلمات أخرى، حسب الكاتب، يسعى “سانتوس والحكومة الكولومبية لاتباع نموذج إسرائيل في الشرق الأوسط، باستثناء كون الأخيرة من المعتقد أنها تمتلك أسلحة نووية”. وينتهي الى الإستخلاص: “في النهاية، من الممكن أن يكون بانيتا (وزير الدفاع الأميركي آنذاك) قد زار كولومبيا لمباركة التعاون المتنامي بين كولومبيا وإسرائيل، لكون الجانبين يشكلان جزءً من المناطق الجيو إستراتيجية للولايات المتحدة: أميركا اللاتينية والشرق الأوسط”.(54)
وكان رايان بيرغر قد أورد أن كولومبيا حازت على عقود عسكرية حصرية مع إسرائيل لتصنيع بنادق هجومية، وبالمقابل، كوفئت شركات أمنية إسرائيلية بعقود لمحاربة ثوار “فارك”، أي القوات المسلحة الثورية الكولومبية. ويذكر ان هناك شركات إسرائيلية في القطاع النافذ في مجال الأمن الداخلي تم دفع أموال لها من كولومبيا لتصنيع طائرات قتالية وطائرات إمداد بالوقود.(55)